أخيرا أتي زمان مصر, أخرجه ثوار التحرير من تحت أنقاض حكم مبارك المطرود, الذي تصور أن مصر التي يحكمها هي روما نيرون القديم المجنون الذي ألهمته ألسنة نيرانها نوتة ألحانه التي لم يحتفظ بها تاريخ المدينة القديمة. وإن احتفظ ذلك التاريخ بتفاصيل ما فعله نيرون في ليلة روما المشئومة, لتتعلم شعوب الأرض نتائج تسليم أمورها للحكام المجانين الجهلاء الذين لا يدركون قيمة الأرض والشعب الذي يحكمونه, فهؤلاء لا يتركون خلفهم عند الرحيل ولابد أن يرحلوا غير الأنقاض والتراب, وذلك. تماما ما تركه مبارك وفرقة لصوصه عقب أن أجبروا علي الرحيل إحياء لحكمة يعلمها الله بأن يلتقوا خلال سنين حياتهم الأخيرة ب هول المواجهة التي لم يعملوا لها طوال سنين حكمهم أي حساب, ذلك أن الشعب المصري كله بملايينه التي تقترب من الثمانين كان خارج كل حساباتهم حتي في تخاريف الأحلام منذ تصوروا بألوهية دنيوية زينها لهم خبث صفوت الشريف, و لؤم زكريا عزمي أنهم نعمة من الله علي المصريين الذين في تصورهم ليسوا وش نعمة, ومن ثم كان لابد من أجهزة أمن جهنمية تجبر هؤلاء علي قبول النعمة حتي لو كانوا كارهين, ليخرج من وسط هؤلاء سعداء الحزب الوطني بداية ب أحمد عز, ونهاية بأي عضو جربوع في قرية مصرية نصب نفسه بعضوية الحزب أو سيد قراره عمدة عليا حتي لو لم يكن كذلك, لتصاب مصر كلها بالعمد السعداء وسط بؤس مصري حزين تقضيه أسر مصرية كثيرة لا تجد قوت عيالها, وإن لم تسلم من زيارات منتصف الليل لأفراد مباحث أمن الدولة لتعود بشباب تلك الأسر بجريمة التفكير في قلب نظام الحكم, وهي تهمة لا يعود منها المتهم أبدا حتي لو ماتت أمه كمدا ومعها أبوه في تشييع لجنازات ضحايا ظلوا بقية حياتهم التعيسة يتساءلون: أين اختفي الأولاد؟! وبرغم كل الفوضي المحيطة بنا من كل جانب, والقادمة من كل اتجاه, بفعل رياح سوداء قادمة من سماوات في الخارج, وبعضها قادم من سحب الجهل المصرية, والتشرذم المحيط بجماعات أدمنت ميدان التحرير, لم يحضر أي منها أيامه الحرجة التي سقط فيها المصابون وشهداء القناصة, وإن ارتدوا الآن ملابس المجاهدين, برغم وجود قلة من ثوار التحرير الحقيقيين التائهين وسط آلاف الغرباء, والذين يحسون بالكثير من الأسي علي النقاء الذي صنعوه قبل أن يختلط بانتهازية الكثيرين الذين أتوا لقطف ثمار أشجار لم يزرعوها. وتقول القراءات المصرية الصحيحة لكل ما يجري, إن الفوضي الحالية هي حالة مؤقتة لن تدوم, وأن اليقظة الشعبية التي تتابع وتراقب لن تسمح بالانحراف عن نهج الثورة التي صنعها ودفع ثمنها شباب النقاء المصري, ولن تسمح كذلك لأي يد باغتيال تلك الثورة بأي حجة كانت, وتتولي حراسة الثورة الآن كتائب مليونية من شعب مصر الصامت الذي يتتبع ويراقب ليل نهار حفاظا علي مولوده الأول الذي حمله رحم الشعب المصري ثلاثة عقود كاملة إلي أن ولد عملاقا في ميدان التحرير. ولعل العقيدة التي تحكم قلوب كل المصريين الصامتين هي أن هذه الأمة العظيمة في نهاية المطاف لن تسقط أبدا في حجر أحد, أي أن الأوطان الكبيرة لا تخضع لنظريات أرشميدس, فهي أكبر كثيرا من أحلام كل الطامعين في القفز علي السلطة, مهما يكن ميولهم الدينية في مجتمع وسطي بالفطرة, أو انتهازية تخاريفهم السياسية وسط شعب علمته الأيام بطول الصبر علي المكاره فضيلة التنبه لكل ما يخرج من الجحور بحثا عن دور, ذلك بعد سنوات طويلة قضاها الشعب المصري مخطوفا, معصوب العينين, مكمم الأفواه مراقبا بجحافل من عسكر من مبارك الجهنمي المعفي دائما من الحساب عن كل الجرائم. وعقب النجاح الأولي لثورة يناير كثيرا ما حلمنا بأن الوقت قد أتي لتتخفف مصر من أحمالها تأكيدا لكلمات لافتة مصرية حملها صبي مصري في ميدان التحرير أيام الثورة تقول: معلهش يامصر, اتأخرنا عليكي كتير, وهي الكلمات البسيطة التي هزتني كثيرا لتعبيرها العفوي عن حقيقة ما حملناه للوطن العظيم من رذائل صمتنا الطويل علي القهر قبل الثورة, لنفاجأ الآن بما يجري من حولنا من مؤامرات وتحليلات للقفز علي أكتاف الثائرين الحقيقيين خططا للوطن من جديد, وهو ما لن يحدث أبدا مهما تلون المهرجون اللاعبون بالسياسة أحيانا, وبالدين أحيانا أخري. ومهما ارتدوا من ملابس الثائرين زيفا وتهريجا! إن ميدان التحرير مازال حتي الآن, وسوف يظل موجودا كموقع تاريخي لبوتقة الغضب المصري الهائل الذي مثلت رياح الثورة القادمة إليه من السويس الباسلة, إضافة الإشعال لبقية الغضب القادم إلي التحرير من كل المحافظات هي التي صنعت نداء الشعب يريد إسقاط النظام الذي مثل كلمة سواء اتفق عليها المصريون جميعا, الذي حضر والذين أرسلوهم ليحضروا ممثلين عن أسرهم التي ظلت تنتظر عودة الذاهبين بالنصر أو عودتهم شهداء أو مصابين في الموقعة الأعظم في تاريخ مصر المملوء بالتاريخ, وهي الدماء التي يحاول بعض المهرجين استخدامها الآن لإثارة الكثير من العراقيل أمام قيامة مصر مع أنهم ليسوا أصحاب الدم الحقيقيين. إن الصبر المصري الطويل الذي صنع الفرج بميدان التحرير لن يسمح لأحد بخطفه وتوظيفة لمصلحة الانتهازيين الجدد, مهما تخفوا في ملابس سراويل مزركشة أو لحي ممدودة, أو خطب عنترية لا يستطيعون أبدا حجب شمس الحقيقة التي يحملها ويحارب من أجلها شعب مصر بثواره, ذلك أن المصريين الأصلاء وحدهم هم دائما القادرون علي تحويل الصبر مفتاح الفرج في أي لحظة يريدون إلي الصبر مفتاح الغضب, وهو الغضب المصري المراقب الآن للمسرح السياسي المصري, والمستعد دائما للقيام بثورة جديدة تشبه ال تسونامي القادر علي أن يكتسح أمامه كل التابلوهات والأصنام. المزيد من مقالات محمود كامل