سيدة تأنقت, برغم وهنها الشديد, فقد كان عليها أن تبرح منزلها لتهنيء رئيس الوزراء الجديد ديفيد كاميرون بفوز حزب المحافظين البريطاني, وهو حزبها, في الانتخابات العامة في مايو.0102. ذلك أن السيدة مرجريت ثاتشر هي الأم الروحية لما يحدث في بريطانيا منذ مستهل عقد الثمانينيات من القرن العشرين وحتي الآن. وليس سرا أن توني بلير وحزب العمال الجديد لم يفلتا من تأثيرها. وهي لا تزال برغم رحيلها من السلطة مثيرة للجدل السياسي. فما أن يتذكر خلق الله سياستها حتي تستبد بهم الهواجس, من جراء ما لحقت بهم من أضرار, ولذلك أطلقوا عليها المرأة الحديدية. وربما تصوروا أن قلبها قد من خشب. فقد قوضت مكتسبات الفقراء, وعصفت بنقابات العمال, وانحازت للأغنياء. وردد الخبثاء أنها لا تكف عن قراءة كتاب أصل الأنواع للعالم البريطاني تشارلز داروين, حتي تلوح بقوله البقاء للأقوي. ومن المؤكد أن مرجريت شعرت بزهو شديد عندما أيقنت أن كاميرون ينتهج جوهر سياستها. فقد بادر بشحذ سيفه وأجتز به الإنفاق العام علي الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية وأنشطة الشباب.. وتململ المجتمع واضطرب. وتفجرت مظاهرات احتجاجية ضد سياسات التقشف الخانقة. ولم يتراجع كاميرون عن الزج بالعمال والفقراء في غيابات جب الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتفاقم الاحتقان الاجتماعي, بينما قفز معدل البطالة بين الشباب الي عشرين في المائة. وشهر كتاب ومحللون سياسيون واقتصاديون أقلامهم وغمروا أعمدة الصحف بمدادها, وهم يحذرون من اضطرابات سياسية جامحة تتقافز في الأفق. لكن كاميرون لم يهتم. واحتمي ضد عاصفة الانتقادات لسياساته بالدرع الخشبية لمرجريت. وظن أنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل من الرأسماليين. ولذلك استقل طائرة الي ايطاليا ليقضي اجازته الصيفية. لكنه اضطر لقطعها والعودة الي لندن, عندما انفجرت دوامات العنف في مدن العاطلين والفقراء والمهمشين.. وكانت القشة التي قصمت جموح سياساته هي اطلاق الشرطة الرصاص علي مواطن أسود فأردوه قتيلا. وانطلق الملثمون في رحلة هوجاء للسلب والنهب. وصبت الحكومة جام غطرستها علي المجرمين وعصابات الشباب, لكن هذا لم يمنع الحكماء من الإشارة الي أن سياسات التقشف هي التي أفرخت العنف. وهو مرفوض, وكذلك سياسات خفض الإنفاق علي الخدمات... وحذروا من احتمال تسلل العنف من هامش المجتمع الي قلبه. المثير للدهشة أن كاميرون بدا كأنه لا يدرك أن الرأسمالية في أزمة وأن أفكارها الخلاقة تنضب منذ هيمنة رجال البنوك والأعمال, ورفعهم شعار الجشع فضيلة, علي حد رؤية المخرج الأمريكي أوليفر ستون في فيلم وول ستريت(7891). وكانت نخبة من المفكرين قد حذرت من الممارسات الخاطئة للرأسماليين. وصدقت توقعاتهم عندما انهار النظام المالي العالمي عام.8002 وأوضح خبراء أن مشروع مرجريت قد انتهي زمنه, وأن رأسمالية الكازينو هي سبب البلاء. لقد حاول نفر من الإصلاحيين, ذات يوم, رسم ابتسامة علي وجه الشيوعية العابس, لكن الفشل حالفهم. وكان أبرزهم الرئيس السوفيتي الأخير جورباتشوف. وأغلب الظن أن الرأسمالية في مأزق. ويحث مفكرون ومثقفون خطاهم نحو ينبوع الاشتراكية الديمقراطية, في انطلاقتها الأولي لبناء مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية. تلك كانت الأيام الزاهرة للأحلام الإنسانية, أيام الكاتب المسرحي برنارد شو, والمفكر سيدني ويب وزوجته الجميلة والمثقفة بياتريس.. نعم.. لا تزال الأحلام النبيلة ممكنة, برغم المرأة الحديدية ودرعها الخشبية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي