عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية البريطانة..هل نتعلم منها درسا[3]
نشر في المصريون يوم 31 - 05 - 2010

(1) سوف تبقى قضية الديمقراطية فى مصر ساخنة لفترة من الوقت.. وسوف يركز المراقبون بقوة على أى تغيير حقيقى تجاه اتحاد قوى المعارضة والتغيير فى مواجهة النظام المستبد .. على أساس أن هذا هو المقترب المرحلي الصحيح لأى نجاح ممكن..حيث يتوجّب على هذه القوى أن تتوحد على هدف واحد هو إزاحة النظام القمعي عن كاهل الأمة أولا.. أما الاختلافات الأيديولوجية.. والمنافسات الحزبية.. والتباهى ببرامج الإصلاح المختلفة فينبغى أن تختفى تماما من الساحة فى هذه المرحلة.. حتى يتم تحقيق هذا الهدف الوطنى.. وإنقاذ الأمة من الهلاك الذى تنحدر إليه .. ولسوف يتابع المراقبون مدى التزام السلطة بوعودها فى حيادها من الانتخابات وأنها ستكون انتخابات نزيهة بلا تزوير.. والحقيقة أنه لا يجب التعويل على هذه التصريحات الخرافية.. فهى لم تتحقق فى الماضى ولن تتحقق أبدا تحت هذه السلطة القمعية .. ولا بد من حلول أخرى.. فهذا الشعب لا يملك إلا ورقة إتحاد الأحزاب مع قوى المعارضة والتغيير.. فإذا ضُربت فلا أمل هناك فى شيء آخر...!
(2) فى هذه المقالة عن الديمقراطية البريطانية نطوى صفحة الكفاح والنصر لننظر في الصفحة الأخرى.. لنرى قصة الوهن الذي دبّ في عضد الديمقراطية البريطانية، وكيف تمت محاولة تفكيكها تدريجاً عبر صراع شرس وهجمات متواصلة من جانب تحالف قوى المال والأعمال وسطوة الشركات الزاحفة .. حتى تم تفجيرأكبر لغم فى مبنى الديمقراطية البريطانية خلال عهد تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق .. ومن داخل حزب العمال نفسه الذي كان في الماضي نصيراً صلباً للديمقراطية وحقوق الطبقات العاملة وصاحب مبادئ الديمقراطية الاشتراكية...!؟ فى هذا المقال إذن نتناول الإجابة على سؤال "بول فوت": كيف تمّ تبديد الصوت الانتخابي ..؟
(3) في سنة 1964م وفي بداية فترة حكومة عماّلية كان يرأسها "هارولد ويلسون" زعيم حزب العمال، هبط عليه في مقره بمبنى رقم 10 داوننج إستريت "لورد كرومر" مدير بنك لندن المركزي [لاحظ أنه بنك مستقل له نفوذه الهائل على الحركة المالية والاقتصادية .. ولكن مديره لا يخضع لسلطة رئيس الوزراء ولا للحكومة البريطانية...!] .. من الناحية الأيدولوجية هو يميني من المحافظين.. سلطويّ حتى النخاع.. جاء ليظهر قلقه من عجز موازنة المدفوعات الذي ورثته الحكومة العمالية من حكومة المحافظين السابقة نتيجة سياسة وزير ماليتها، تسببت في عجز مالي مقداره ثمانمائة مليون جنيه إسترليني..
اجتمع كبار أعضاء الحكومة لدراسة مقترحات "لورد كرومر" والنظر في حلول للخروج من هذه الأزمة .. ثم قرّروا ألا تلجأ الحكومة إلى تخفيض سعر الجنيه الإسترليني أو تعويمه .. فقد كانت هذه السياسة السبب في سقوط حكومة العمال السابقة، حيث أدت تلقائياً إلى تخفيض أجور العمال .. ومن ثم اكتفى "جالاهان" وزير المالية بإجراءات سياسية لوقف النزيف المالي .. وبذلك اضطر إلى إرجاء كل الوعود التي قطعتها حكومة العمال على نفسها أثناء الانتخابات ..
لم يُعجب هذا التصرف لورد كرومر .. واستمر في بيع الإسترليني .. حتى تدهور الاحتياط النقدي في البنوك .. ويصف هارولد ويلسن في مذكراته (بعد ذلك) الحوار الذي جرى بينه وبين لورد كرومر في اجتماعهما يوم 24 نوفمبر 1964م قال: "لقد وصلنا إلى نقطة كان ينبغي أن نعود فيها إلى الشعب لانتخاب حكومة مخوّلة بصلاحيات أكبر.. بعد أن نحيطهم علماً بأن حكومتنا مضطرة (بسبب موقف مدير البنك المركزي) للتراجع عن سياستها التي انتخبها الشعب لتنفيذها .. وأن عليها أن تنفذ سياسة حزب المحافظين التي عارضتها من قبل معارضة شرسة .." ويمضى هارولد ويلسون فيقول: "كان جواب مدير البنك المركزي صريحاً في تأكيده أن هذا هو الحقيقة!!" يقول ويلسون: "لقد سألته حينئذ: "هل معنى ذلك أن أي حكومة بقيادة أي حزب وتحت أي شعار أو برنامج مُعلن .. ومهما تكن السياسة التي خاضت الانتخابات بغية تنفيذها يستحيل عليها أن تستمر ما لم تتحول فوراً وبصورة مطلقة إلى سياسة حزب المحافظين..؟!" لقد اعترف الرجل بأن هذا تماماً هو ما يقصده من حججه التي ساقها أثناء المناقشة .. وبرر ذلك بأن هذا هو ما تمليه الحتمية الاقتصادية على موقف الذين بيدهم السلطة السياسية والاقتصادية جميعاً". وحجته في ذلك: أنه تحت وطأة وحجم أزمة اقتصادية من العيار الثقيل لابد من تعليق العملية الديمقراطية ..! وكان رد ويلسون حاسماً وشجاعاً بالرفض .. بل هدده بأنه ليس أمامه إلا خيار واحد وهو أن يعتصم بالديمقراطية إلى أقصى المدى، ومن ثم لابد من العودة إلى الناخبين للحصول منهم على صلاحيات أكبر للتعامل مع الأزمة .. وفي حالة مصارحة الشعب بتفاصيل الموقف فسوف يكون هناك إجماع شعبيّ بل زلزال يقلب الأمور على وجهها الصحيح .. وكان رد لورد كرومر بأن هذا قد يكون صحيحاً، ولكنه لن يكون في صالح الإسترليني ولا في صالح بريطانيا..".
يقول ويلسون: "غادر كرومر مقر مجلس الوزراء .. واستطاع أن يجمع ثلاثة مليارات دولار قرضاً لبريطانيا من البنوك المركزية .. وحقق بذلك وقفًا مؤقتاً لأزمة الإسترليني..".
(4) قصة هذا الصدام التاريخي المفتوح بين رجال البنوك وبين الحكومة المنتخبة هي وصف دقيق لحالة الخصومة الأبدية بين رجال المال والأعمال وبين الديمقراطية أو الحكومات الديمقراطية التي تحاول الالتزام بمصالح الطبقات العاملة أو الأغلبية المستضعفة التي انتخبتها للسلطة .. وكان جالاهان وزير المالية العُمّالي كلما أعلن زيادة في الإنفاق الحكومي لتدعيم الخدمات جاءته التحذيرات تترى من رجال البنوك الدائنة بالكفّ عن هذه السياسة الخاطئة.. وأنهم كانوا يتوقعون من الحكومة مسلكاً مختلفاً للحد من التضخم المالي ..
يصور جالاهان صعوبة المأزق المالى فيقول: "كان الأمر بالنسبة لي كالسباحة في أمواج هائلة كلما خرجنا من موجة عاتية أعقبتها موجة أعتى منها فتلطمنا قبل أن نتمكن من التقاط أنفاسنا..!".
(5) بداية التنازلات: من أهم الكتب التي تكشف عن قصة التنازلات العمالية المتدرّجة كتاب "كلايفْ بونْتِنْج" بعنوان: "النكوص عن الوعود: العُمّال في السلطة 1964- 1970" .. نشرته دار "هامش هاملتون" سنة 1989 .. فقد كشف لأول مرة عن خلفيّة اتفاقية سرية بين حزب العمال البريطاني وبين الولايات المتحدة الأمريكية (تساعد أمريكا بمقتضى هذه الاتفاقية حكومة العمال البريطانية للخروج من أزمة الإسترليني في مقابل تدعيم الولايات المتحدة في حربها بفيتنام .. وإبقاء عدد كبير من القوات العسكرية البريطانية شرقيّ السويس .. وغير ذلك من الشروط..) وكلها شروط مناقضة لسياسة حزب العمال التقليدية المعلنة .. فهذه السياسة كانت دائماً ضد المشاركة في حرب فيتنام، وضد الاستمرار في الإنفاق الباهظ على القوات الإمبراطورية .. وضد الإجراءات الاقتصادية التقشفية مثل خفض سقف الإنفاق الحكومي بحجة محاربة التضخم المالي .. وهكذا اضطرت حكومة العمال تحت تأثير الضغوط الاقتصادية وتلاعب رجال البنوك مع الولايات المتحدة إلى التراجع عن السياسات التقليدية لحزب العمال .. وإنها لتفعل ذلك ضد قناعتها الدستورية والديمقراطية ..! .. ولأول مرّة (في هذا المناخ التنازلي) تضطر حكومة عمالية لمواجهة إضراب عُمّال النقل البحري بعنف شديد غير معهود .. ولا تستجيب لمطالبهم العادلة، وكان السبب هو تنفيذ الشروط السرية التي وضعتها أمريكا على القرض الذي قدمته لحكومة العمال ..!
(6)التحدّي السافر: كان همُّ حكومة المحافظين الأول في سنة 1970 هو كبْح جماح الاتحادات العمالية واستخدام القوانين لتدعيم هذا الاتجاه .. ولكن عاد العمال مرة أخرى إلى السلطة سنة 1974 وجاء معها "تونى بنْ" وزيراً للصناعة .. وكان يعتزم اتخاذ إجراءات حكومية لضبط سلوك الشركات التابعة للقطاع الخاص .. وقد أعلن عن ذلك في مذكّرة مفصّلة .. ولم تكن هذه الشركات لتستسلم لهذا الضبط الحكومي ولو كان باسم مصالح الشعب وإرادته التي تبلورت في انتخاب هذه الحكومة..!
يحكى لنا "تونى بن" في مذكراته عن واقعة ذات دلالة كاشفة، حدثت في يوليه 1974 ، فقد دُعي إلى حفل عشاء أقامه مديرو الشركة العملاقة لصناعة الصلب والصناعات الهندسية (GKN) .. في تلك الليلة هدده سير "راى بروك" رئيس مجلس إدارة الشركة بأنه إذا لم ترفع الحكومة إسم شركته من قائمة الشركات التي تعتزم الحكومة تأميمها فإن شركته ستضطر إلى إلغاء كل برامج استثماراتها المخططة للعام القادم .. يقول "تونى بنْ": "لم أصدّق ما سمعت من تهديد سافر بهذه الجرأة على الحكومة .. فطلبتُ من سير "راى بروك" أن يُعيد على مسامعي هذا التهديد المفاجئ .. فأعاده بهدوء وبرود شديدين" .. كان ردّ "تونى بنْ" بأنه لا توجد لدى الحكومة أي قوائم من هذا القبيل .. ولكن الدرس الذي استخلصه من الموقف: أن الرأسمالية تحتشد ضد إجراءات الرقابة التي تنوى حكومة العمال اتخاذها لضبط سلوك الشركات والسيطرة عليها.. وتتحدّى الحكومة بل تهدّدها بالسقوط .. ولها في ذلك أساليبها وحيلها التي لا تنفد ..
(7) إحتشاد قوى المحافظين في عهد مسز ثاتشر: فاز حزب المحافظين برئاسة "مسز ثاتشر" في انتخابات 1979 واستمرت في السلطة قرابة ستة عشر سنة متواصلة .. وفي عهدها تبلور نوع من الفاشية الجديدة في قلب النظام الديمقراطي العريق ...!
كان حزب المحافظين (مدعوما كالعادة بقوى المال والصناعات الكبرى) طوال فترة حكومات حزب العمال المتعاقبة منذ سنة 1965 يدرس ويحتشد للقضاء على ركائز السياسات العمالية .. واستطاع الحزب أن يجمع صفوفه تحت قيادة جريئة تؤمن بفلسفة أكثر جسارة وحدّة .. قدّرت ألا يقوم لحزب العمال قيامة بعدها أبدا ..
تم في داخل حزب المحافظين انقلاب سياسي هادئ نُحّيَ فيه "إدوارد هيث" .. وكان يُعتبر من أكثر قيادات الحزب يمينيّة بمقاييس عصره التقليدية .. وتربّعت مسز ثاتشر في مقعد القيادة .. فجاءت معها بفريق من المستشارين المتطرفين في أفكارهم اليمينية .. جميعهم كان متأثراً بفلسفة جديدة تقضى بتنفيذ برنامج عنيف لصالح الطبقة التي ينتمون إليها .. وكان من بين هؤلاء أستاذ نمساوي يُدعى "فردريك هايك" ..
لم تُخْفِ مسز ثاتشر إعجابها بأفكار هذا المفكر النمساوي [الرائعة حسب نعبيرها]) .. وخلاصتها: أن النظام الرأسمالي قام على أساس من الحرية .. وأن أي منظمة أو مؤسسة كإتحاد العمال مثلا تحاول الإخلال بالتوازن في المنظومة الرأسمالية فهي خطر على الحرية .. ثم تطرّق إلى النظام البرلماني فقال: إن شكلاً من أشكال المجالس الديمقراطية المنتخبة ضروري ..[ ولكن بدون أن تتدخل في شئون حرية السوق أو تعوق آلياته ..! ]
كان من رأى هايك أن اتحادات العمال لابد من تكبيلها بالقوانين بحيث تفقد فاعليتها، وهكذا صدرت فى عهد ثاتشر قوانين أكثر رجعيّة حرمت العمال من حقوق كانوا قد اكتسبوها منذ سنة 1906 منها مثلاً حرمان العمال من حق الإضراب أو التظاهر تأييداً لمطالب فئة أخرى من العمال...!
وكالعادة المتّبعة في كل النظم الفاشية قُُدّمت مشروعات هذه القوانين القمعية باسم: (مقترحات لإصلاح الاتحادات العمالية...!) .. وفي الحقيقة لم يكن لها أي علاقة بالإصلاح من قريب أو بعيد..![ فهى أشبه بإجراءات وقوانين الإصلاح عندنا] .. وإنما كان القصد منها تقوية جانب أصحاب الأعمال والأثرياء في مواجهة القوى العاملة وإضعاف قدرة اتحادات العمال على تنظيم أنفسهم ضد الإجحاف الواقع عليهم من أصحاب الأعمال ..
يقول بول فوت: "بهذه القوانين لم تستهدف حكومة ثاتشر تكبيل الاتحادات العمالية بالقيود فقط ولكن هزمتهم شر هزيمة .. وانعكس هذا سلباً على مواقف قيادات حزب العمال .. مثلاً: "نيل كينوك" زعيم الحزب كفّ عن معارضة هذه القوانين القمعية .. ودفن قادة الحزب التزاماتهم تجاه اتحادات العمال .."
(8) كان قادة حزب العمال يعارضون الخصخصة بقوة (سواء في الصناعة أو فى الخدمات) .. وطالما وعدوا الجماهير بأن كل صناعة أو خدمة قام المحافظون بخصخصتها سيتم إعادتها إلى الملكية العامة .. وأبرز مثال على هذه المعارضة الواضحة والمستمرة تجلّى في خصخصة الكهرباء .. حيث قام "تونى بلير" في البرلمان (وكان في ذلك الوقت وزير ظل) ليقدّم رؤية حزب العمال فقال: "نحن فخورون بأننا أخذنا الصناعة في الملكية العامة .. وسوف نعيد الكهرباء للملكية العامة لخدمة الشعب البريطاني .. ولن تُدار الكهرباء أبداً كمشروع تجاري خاص.." وفي المؤتمر السنوي للحزب قال "تونى بلير" مرة أخرى: "الخصخصة معناها ارتفاع الأسعار وأعباء جديدة على عاتق الطبقات العاملة..".
ولكن رأينا في أوائل التسعينات من القرن الماضي أن الحماس والمعارضة القوية (فى حزب العمال) لخصخصة الكهرباء والغاز والمياه تهدأ وتتراخى .. ولم يعد أحد من قياداته يتحدث عن إعادة تأميمها.. واختفت كل الوعود السابقة من برنامج حزب العمال خلال انتخابات سنة 1997 .. وقد ساعد على هذا التراجع المذهل الهزائم المتعاقبة للحزب في كل الانتخابات .. وهكذا قطع حزب العمال علاقته بالجذور..!
(9) في سنة 1994 مات جون سميث خليفة نيل كينوك في زعامة الحزب بالسكتة القلبية، وكان آخر قيادي عمالي يعلن ارتباطه بالقيم الاشتراكية والتزامه بالملكية العامة والتوظيف الكامل للقوى العاملة .. فلما رحل فجأة كان هناك إجماع صحفي على ترشيح تونى بلير زعيماً لحزب العمال..!
كانت النغمة الجديدة لتونى بلير: أن العمال لا يمكن أن يكسبوا الانتخابات إلا بالتغييرات التي بدأ يبشّر بها في أوساط الحزب .. لقد أضعفت سنوات الهزائم عضوية الحزب وأُجبر عدد كبير من اليساريين على مغادرته (تونى بِنْ مثلا).. وخلال ثلاث سنوات تفرّد "تونى بلير" بمخاطبة جماهير الحزب وقواعده في مؤتمراتهم السنوية بدون معارضة تُذكر .. فها هو شاب ذكي لامع بريئ المظهر، يوحى بالثقة، يجيد سبك الكلام والعبارات المؤثرة، وله أسرة شابة، يرتفع إلى مقعد زعامة حزب العمال، ويتحدث بثقة كبيرة عن عودة حزب العمال الوشيكة إلى مقاعد السلطة التى حرم منها سبعة عشر عاما...!
ونتابع بإذن الله ومشيئته قصة محاولة تونى بلير تفكيك الديمقراطية البريطانية لصالح الشركات الكبرى والتكتلات المالية التى أصبحت تمتلك قوة سياسية هائلة لا سبيل إلى تحدّيها أو مواجهتها...! [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.