أغلبية الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية المصرية تشكو من نقص التمويل, وأغلبيتها أيضا تتجه مباشرة نحو الخارج من أجل حل هذه المشكلة المزمنة, وتبذل جهودا كبيرة كي تحصل علي تمويل أجنبي دون أن تبذل جهدا في البحث عن مصادر التمويل الداخلي/ المحلي, وأغلبيتها تتصرف كما لو أن هذه المشكلة لا حل لها إلا فيما وراء حدود الوطن. الجدل حول هذه المشكلة لايكاد يهدأ حتي يثور من جديد. وهو ماحدث مؤخرا بعد أن أعلنت السفيرة الأمريكية في القاهرة أن بلادها قدمت 40 مليون دولار ل600 جمعية أهلية من أجل دعم حقوق الإنسان في مصر, الأمر الذي دعا الحكومة لتشكيل لجنة تقصي حقائق وكتابة تقرير حول قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني بصفة عامة. والحقيقة أن المرء لايكاد يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بشأن حجم التمويل الأجنبي للجمعيات والمنظمات غير الحكومية في مصر. فجريدة الأهرام نشرت بتاريخ 28 يوليو الماضي أن هناك 600 جمعية أهلية مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي مامجموعه056 مليون دولار من التمويل الأجنبي الذي تقدمه هيئة المعونة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والمعونة الاسترالية والمعونة الكندية والمعونة الهولندية والمعونة الألمانية بالقاهرة. وقبل ذلك بأسابيع قليلة كانت السفيرة الأمريكية قد أعلنت عن توزيع ال40 مليون دولار علي 600 جمعية. ونسبت تقارير صحفية للواء محمد العصار مساعد وزير الدفاع وعضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة أنه قال إن السفيرة الأمريكيةالجديدة في القاهرة آن باترسون قالت له إن بلادها قدمت 105 ملايين دولار لمنظمات غير حكومية من أجل مساعدتها علي المشاركة السياسية في مصر. وحسب البيانات المنشورة علي موقع السفارة الأمريكية فإن مبلغ المنحة التي يقدمها برنامج مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط (المعروف اختصارا باسم مابي) للمنظمة أو الجمعية الواحدة يتراوح بين 25 ألفا و100 ألف دولار. مايثير الريبة في قضية التمويل الأجنبي هو أن أكثر الجمعيات والمنظمات هرولة إليه هي تلك العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والمرأة وماشابه ذلك من قضايا ذات أهمية لا ينكرها أحد, وإن اختلفت الآراء في تقدير أولوياتها علي ماعداها من القضايا والتحديات التي يواجهها المجتمع. هذه القضايا التي تنشغل بها تلك الجمعيات والمنظمات التي تمد يدها للخارج بسؤال التمويل ذات حساسية سياسية ويلفها غموض غير بناء علي الإطلاق, وهو مايصيب علاقة تلك المنظمات بالتوتر المستمر مع الحكومة. والسؤال الذي يستحق أن نبحث عن إجابته هو: لماذا لايقبل المتبرعون المصريون من المحسنين ورجال الاعمال والأثرياء الأتقياء. علي التبرع لدعم تلك المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والدفاع عن الحريات العامة, والمحافظة علي البيئة مثلا؟, المؤكد أن مثل هذه القضايا ذات أهمية كبيرة, وهي مظنة تحصيل الثواب والقرب من الله إذا تم تأصيلها علي خلفية المرجعية الإسلامية بما لها تأثير علي نوعية الحياة اليومية لقطاعات واسعة من المواطنين المصريين. ومن ثم فلا يصح أن نعزو إحجام المتبرع المصري عن دعمها لقلة أهميتها. تري هل السبب يتمثل في غياب ثقافة تحض علي التبرع وتوفير التمويل المحلي, أم في قلة مصادر هذا التمويل التطوعي المحلي؟. المؤكد هنا أيضا أن لدينا ثقافة عريقة تستند إلي القيم والتعاليم الدينية الإسلامية والمسيحية التي تحض علي التبرع للأعمال الخيرية والمنافع العامة علي اختلاف أنواعها, وتكشف هذه الثقافة عن هرم تمويلي يتكون من خمسة مستويات في قمتها الزكاة, وتليها الوصية, ثم الوقف, فالهبة, فالنذور والكفارات وسائر أعمال البر والصدقات, هذا الهرم التمويلي راسخ في وجدان الناس, ويحتاج فقط الي من يبحث في وسائل تفعيله والإفادة من إمكاناته التمويلية الهائلة, وتوجيهها التوجيه السليم في خدمة المجتمع. قد يقول قائل إن سبب ضعف التمويل المحلي هو هذا العدد الهائل من الجمعيات والمنظمات الأهلية التي وصلت إلي نحو 30 ألفا حسب بعض التقديرات شبه الرسمية( بمعدل جمعية لكل 2666 مواطنا تقريبا). ولكن بالتدقيق في هذا العدد يتضح لنا أنه ليس كبيرا وفق معايير النظم الديمقراطية, فمقارنة بدولة مثل تركيا, وهي دولة غير مكتملة الديمقراطية علي أي حال. توجد جمعية لكل 830 مواطنا, أي أن نصيب المواطنين المصريين من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية عندنا يساوي ثلث نصيب المواطنين الأتراك منها. مع العلم بإن العبرة طبعا ليست بكم تلك الجمعيات والمنظمات, وإنما بكفاءتها وفعاليتها وقدرتها علي تلبية احتياجات المجتمع الذي تعمل في خدمته. والمشكلة أنه لاتوجد إحصاءات دقيقة تدلنا علي نسبة المنظمات والجمعيات الفاعلة من ال30 ألفا, فقط هناك مؤشرات عامة تؤكد أن هذه النسبة لاتزيد عن 30% منها كحد أقصي, بينما هناك 70% منها ليس له وجود فعلي علي أرض الواقع. في رأينا أن السبب الرئيسي والأهم لمشكلة نقص التمويل والإحجام عن تقديم الدعم المالي اللازم للمنظمات غير الحكومية المستحدثة في مصر هو انعدام ثقة المتبرع المصري في أغلبية هذه الجمعيات وتلك المنظمات. فثمة شكوك لاحصر لها تساوره بشأن أهدافها, وفي مدي نزاهة القائمين عليها. وليست الشكوك في الأهداف والأشخاص هي وحدها مايفسر إحجام المتبرع المصري عن دعم تلك المنظمات, وإنما هناك بعض السياسات الحكومية والتشريعات القانونية والإجراءات الإدارية التي أوصلت الثقة بين المتبرع وأغلبية المنظمات والجمعيات الأهلية إلي الحضيض. ولكن إذا كان الحال كما وصفنا, فما الضرر إذن في أن تلجأ تلك المنظمات والجمعيات للتمويل الأجنبي كي تحل مشكلتها؟. والجواب هو أن علة العلل في هذا التمويل الأجنبي هي أنه مسيس علي طول الخط. هو مسيس من حيث شروط الحصول عليه من الجهات الأجنبيه ومرتبط بأولوياتها وأجندتها الخاصة. وهو مسيس من حيث الشروط التي تضعها الحكومة الوطنية لقبوله والسماح بمروره تحت رقابتها وإشرافها الرسمي, ومحصلة هذا التسييس هي ان تلك المؤسسات تفقد صفتها المدنية. هناك أيضا ضغوط العولمة التي تسعي. دون كلل. إلي استتباع كل التكوينات المحلية. والقومية في تيارها الجارف, وأول ضحايا هذه العولمة هي سيادة الدولة الوطنية بمعناها الحديث. وهذه الدولة بسيادتها, هي المجال الذي تتحرك فيها مؤسسات المجتمع المدني, ومع زيادة اعتماد هذه المؤسسات علي التمويل الخارجي بشروطه وضغوطاته, تزداد حساسية الدولة تجاه المجتمع المدني ومؤسساته, ويزداد أيضا جنوحها لفرض مزيد من القيود علي المؤسسات والتكوينات الجمعوية, السياسية والمدنية في الداخل. التمويل الأجنبي يجعل المنظمات المتلقية له منظمات مجتمع أجنبي, لامدني, وتسييس التمويل يجعل المنظمات والمؤسسات التي تتلقاه وتعتمد عليه غير مستقرة, وغير مستمرة, وغير مستقلة, وصفات الاستقرار والاستمرار والاستقلال هي عصب المجتمع الأهلي الفاعل في خبرتنا الحضارية الإسلامية التي توضح أنه إذا غابت تلك الصفات أو انتقصت, غابت فاعلية هذا المجتمع أو انتقصت بالقدر نفسه. وفي هذه الحالة فإن مثل هذه المؤسسات أو المنظمات التي توصف بأنها مدنية. وهي وافدة يستحيل أن تسهم في تحقيق الأهداف التي تشير إليها الشعارات النبيلة التي تتحدث عن دور المجتمع المدني في: دعم التنمية, والمساعدة في التحول الديمقراطية, وحماية حقوق الإنسان. لا حل لمشكلة نقص التمويل إلا بالاعتماد علي مصادر التمويل المحلية, وفي مقدمتها الأوقاف الخيرية, والصدقات بأنواعها, والوصايا, والهبات, وكل ماتحتاجه هذه المصادر هو بذل بعض الجهد لإحياء الثقافة الخاصة بها, وهي ثقافة التدين وتشجيع التمسك بقيم الإسلام وأخلاقياته ومبادئه عبر المؤسسات التعليمية والإعلامية والفنية من جهة, والقيام كذلك بعمليات إصلاح واسعة في منظومة القوانين والإجراءات الخاصة بتلك المصادر وفي مقدمتها قوانين الأوقاف والوصايا والهبات, بحيث تسمح بربطها بالجمعيات ومنظمات المجتمع الأهلي الأصيلة, وليست الوافدة أو ذات الأجندات الأجنبية. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم