لاشك أن ما عانته مصر والعديد من الدول في المنطقة راجع إلي المواثيق الدستورية والطبائع البشريةوالاغراءات المادية, وكل هذه الأمراض التي تصيب الحاكم لم تقتصر علي شعب دون غيره فقد قال الملك لويس السادس عشر أنا الدولة وقالها الخديو توفيق موجها حديثه إلي أحمد عرابي بأكثر غلاظة ما أنتم إلا عبيد احساناتنا ورد عليه عرابي بعبارة مأثورة أصبحت حديث الأجيال لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا ونحن لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم. أما محمد علي الذي أصدر شبه ميثاق العلاقة بين الحاكم والمحكومين وجاء وصف الحاكم بولي النعم وصاحب الذات المصونة المقدسة التي لاتمس. وواضح من العبارة التي وجهها الخليفة عمر بن الخطاب لوالي مصر عمرو بن العاص ياعمرو متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. والحاكم المستبد يورث الاستبداد لمن يليه لأن الفساد يولد فسدا ومن الطبيعي أن الشعوب تثور علي الظلم ولا تقبل الاستعباد إلا أن القسوة والعنف يرغمان الشعوب علي الخضوع رغم اشتياقها للحرية وكرهها للطغيان وأمنياتها القضاء علي الفساد.ويمكن وصف الحكومات في ثلاثة أنماط هي: الجمهورية الشعبية والملكية الوراثية والفردية الاستبدادية. أما النوع الثاني فكما يصفه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو فهو نظام الحكم الملكي المتوارث في العائلة الملكية والملك هو مصدر كل سلطة مدنية وسياسية وتعاونه أجهزة وسيطة خاضعة للملك فهي تقوم بالاشراف والتأكد من الطاعة والخضوع للملك. ويتوقف نوع هذه الحكومة المعاونة علي طبيعة الملك وما إذا كان ملكا عادلا أو ملكا مستبدا. وأما النوع الثالث فهو النظام الاستبدادي الذي يقوم علي الفرد ولا يحد سلطانه نظام أو قانون أو حتي مرجعية, بل تسير الأوضاع وفق هوي وميل الحاكم الأوحد, وفي مثل هذه الأنظمة نجد المعاونين والذين بيدهم بعض سلطات الحاكم الفرد لايخرجون عن نمط الحاكم وأسلوب ادارته وقيادته مهما كانت مستويات التفويض المعطي لهم من الحاكم حتي يسود العنف والفساد والمظالم, نزولا إلي أدني مستويات الحكم, وكما تقول الأمثال السمكة تفسد من رأسها فالجسم كله يفسد بداية من الرأس حتي الذيل. وفي مثل هذه الأنظمة لا ينتظر منها عدالة أو تقدما أو استقرارا ومهما طال بهذه الأنظمة الزمن فلابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر. إن ثورة الخامس والعشرين من يناير وما سبقها ولحقها من ثولاينبغي أن يفصل زمنيا بين مرحلتي المحاسبة والتصحيح بل علي الثوار أو القادة الذين جاءت بهم الثورة ألا يضيعوا الوقت في المحاسبة والمعاقبة ثم يرجئون التصحيح إلي مرحلة متأخرة والا فقدت الثورة أهدافها. فاختزال الثورة في الادارة وازدحام السجون بالمفسدين وانشغال الرأي العام بمتابعة القبض علي هذا وذاك ومشاهدة المفسدين في الأقفاص أو زنزانات السجون رغم ما لهذا من مردود نفسي علي أهل الشهداء والمظلومين, إلا أن هذا لايمثل إلا الجانب العقابي والانتقامي, بينما يقابل ذلك انفلات أمني وانهيار اقتصادي وتوقف عجلة الانتاج مع تراجع في خدمات الجمهور, مما يعطي للمفسدين مبررات وللشعوب إحساسا باليأس وفقدان الحماس والشعور بالاحباط وكأن ثورتهم لم تكن إلا للانتقام من أشخاص, بينما يبقي الحال علي ماهو عليه.أما الدائرة الأخري التي أوحت لنا وكأن انقساما حادا قد أصاب المواطنين إذ دخلنا في صراع الأولويات انتخابات مجلسي الشعب والشوري أم الدستور أولا, ومع أن طبيعة الأشياء تقول إنه لا بناء بدون أساس, فالدستور هو الأساس الذي يحدد نوع الحكم واختصاصات السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. أما وأن ثمة انقساما حادا حول الأولوية إذ تمسك البعض بأولوية الانتخابات اتساقا مع الاستفتاء الشعبي والذي انقسم عليه الشعب أيضا, وقد حسم المجلس العسكري هذا الأمر بإعلانه اتجاه الارادة الحاكمة بإعلان دستوري يضمن استقرار النظام بوضع قواعد حاكمة تضمن مدنية النظام والحقوق الأساسية والحريات التي من أجلها قامت الثورة ودفع فيها الشباب دمهم وأرواحهم لتحقيق العدل والحرية والكرامة, وهذا ما يطلبه الشعب ومن حقه أن يطمئن علي تأكيدات قانونية ودستورية لايجوز الاعتداء عليها أو الالتفاف حولها بأي شعارات تحتوي عسلا مسموما أو سما بطيئا يسري في حياة الشعب تحت شعارات أكبر من المحتوي أو مظللة.ومن البديهيات التي لاتفوت علي عاقل أن الفكرة الحاكمة حول هذا الانقسام تقوم علي أجندة تطويع الدساتير لتمكين الحاكم أن يحقق أجندة حزبه للوثوب إلي نظام لا يخدم إلا فريقا يعتنق عقيدة معينة كالاشتراكية أو الاقتصاد الحر أو لاتجاه ديني معين. ولأن تجربتنا السابقة خرجنا منها بالدساتير الورقية احتوت علي مواد ناعمة وضعت بعناية لتمكين الاستبداد ولخدمة الحاكم واستمراره في السلطة لآخر الزمان وما بعد حياته امتدادا إلي وريث العرش, كما كان في زمان الملكية وكأن لا تغيير في النظام إلا في العنوان بين ملكي وجمهوري ملكي. ولما كانت تجربتنا الدستورية مريرة للغاية إذ استخدم الدستور لفرض الطوارئ وضرب القوانين عرض الحائط وتجميدها أو تعطيل الدساتير وحق تفسيرها وتأويلها, وكان الدستور الأخير الذي أسقطه الشعب خير دليل علي ذلك, إذ أصبح رئيس الدولة وهو كل شيء بابا وماما القاضي والمشرع والمنفذ المانح والمانع ومنه الرضا والعطاء وبه الحرمان من كل شيء حتي من الحياة. وكما يقول المثل لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أما وقد لدغنا مرات ومرات وسنين بلاعدد, فالشعب لن يتنازل عن ضمانات وعد المجلس العسكري بإصدار إعلان دستوري بها لحماية الحقوق والحريات. وهنا يتبين أي من الفرقاء ينوي القفز علي الحقوق والحريات, إننا ننتظر من كل الأطراف أن يتحدوا معا حول مبادئ الحقوق والحريات في إعلان دستوري نلتزم به جميعا مهما كانت توجهاتنا حتي لا ينسب لأي من الفرقاء الميل إلي الوثوب إلي السلطة دون ضمانات كافية لطمأنة الشعب.