في الأيام الأولي للثورة وحتي يوم خلع مبارك بدا ميدان التحرير قبلة وإلهاما لشعوب العالم التي ذاقت طعم الحرية وتلك التي مازالت تتوق إليها.. وقتها كان في الميدان ثوار تجمعوا دون سابق معرفة ودون تخطيط مسبق سوي براءة شعار الشعب يريد إسقاط النظام.. والآن وقد جاءت موجة جديدة من الثورة واختفت الوجوه التي أبهرت العالم, وبدت في الميدان وجوها مدربة محنكة تمسك بالورقة والقلم.. كل شئ بالحساب الدقيق, باتت الدنيا مشفقة قلقة علي أم الدنيا.. ويتساءل العالم: الي أين يقودك المصير يا مصر ؟. هل تذكرون ذلك الرجل الذي كان يحكم مصر قبل ثورة يناير والذي كان يدعي محمد حسني مبارك؟.. فقد عجز عن أن يكون حاكما صالحا يقدم نفسه للتاريخ كصانع للديمقراطية, واستولت عليه شهوة البقاء والديمومة.. لذا لابد أن تكون مصر الثورة علي نقيضه تماما, وأن تكون قادرة علي صنع النموذج الحقيقي للانتقال السلمي الي الديمقراطية بعيدا عن الفوضي التي ما إن تتمكن وتسيطر, إلا وسوف تحيل الثورة ودماء شهدائها الي مأساة إنسانية كبري. علي الثورة المصرية الآن أن تقدم النموذج التلقائي للأصالة والتعبير عما يريده الشعب فعلا وحقا.. أما أن نستمر في تقديم ذلك النموذج الفوضوي, فيقيني ان ترك الحبل علي الغارب سوف تصل بالثورة الي حد الخراب والانهيار الشامل ؟ اعلم يقينا أن شيئا من هذا السيناريو المتشائم صعب بل مستحيل أن يحدث.. ولكن مجرد أن نسمح لكائن من كان أن يتصور نفسه في موقف من القوة بحيث يستطيع أن يفرض كلمته علي المجتمع والقوي السياسية بينما يرتدي مسوح الثورة ونصدق انه من الثورة ؟؟... فتلك كارثة. والكوارث في عهد ثورتنا المجيدة لها ألف وجه ووجه منها مثلا: ما شهدته شوارع وسط القاهرة الاسبوع الماضي من مسيرة للتنديد بالمحاكمات العسكرية لمن يروعون الناس ويعيثون في الأرض فسادا, وللتضامن مع المحال للمحاكمات العسكرية بتهمة ضرب مجند أمن مركزي و الاستيلاء علي سلاحه الميري في مواجهات مسرح البالون يوم 28 يونيو الماضي.. فهل أصبح السلاح الميري من حق الثوار, ومن يعترض علي ذلك فهو خائن.!! ومنها تلك الخيام في ميدان التحرير وأسفل ماسبيرو والي جوارها خيام أخري تحولت الي غرز ومقاه شعبية. ومنها ذلك الذي يدلي بتصريحات الي القناة الفضائية الشهيرة مؤكدا في تعال انه والثوار أقرانه لن يقبلوا بأي حكومة لا يكون له ولأصحابه دور في اختيارها.!! وذلك الطبيب الامتياز الذي اضرب عن الطعام وأصر علي العلاج في الجناح نفسه الذي يعالج فيه الرئيس السابق بمستشفي شرم الشيخ.. والعجيب أن السلطات تستجيب له, ويتضح انه طبيب اعتاد الغياب عن عمله. ومنها هذا المخبول الذي يدعي انه ينتمي الي حركة 6 ابريل والذي وقف يقول أن علي الشعب أن يأمر وعلي المجلس العسكري أن ينفذ, وان حركة 6 ابريل لابد أن تحكم مصر.!! ومنها هذه القوي السياسية التي اعتادت في العهد البائد أن تكون مجرد دكاكين لبيع الصحف والمجلات الصفراء ثم فوجئت بأن البلد فيها ثورة فأطلقت لخيالاتها العنان وتصورت أنها كانت علي ذلك الحصان الأبيض الذي كان في مقدمة الثوار معلنة عن حقها الأصيل في تشكيل الوزارات وترشيح الرؤساء. ومنها هذه القوي الإسلامية التي كانت محظورة ومحاصرة ومطاردة وجاءت الثورة لتخرجها من الظلمات الي النور وبدلا من أن تحمد الله وتشكر فضله نجدها تفرض سطوتها وتستغل أنها الفصيل الأكثر تنظيما لتحدد النسبة التي ستفوز بها في الانتخابات وتتمسك بخيار الانتخابات أولا ليس إيمانا بالديمقراطية ولكن طمعا في استغلال ضعف الآخرين ووضع دستور فيما بعد يفصل تفصيلا علي المقاس.. والي جوارهم هؤلاء الذين كانوا في أيام الثورة الأولي يجاهرون بتكفير الخارجين عن طاعة الحاكم الواجبة, ثم لم يجدوا بدا من القفز علي كل القيم والمبادئ ليعلنوها إسلامية إسلامية. ومنها هذه الجماعة الإعلامية الخاصة التي نمت وترعرعت قبل الثورة وفي ظل ضعف وهوان النظام السابق.. والآن لا تجد بدا من إشعال الأخضر واليابس حتي تضمن مكانا في المنظومة الجديدة.. وهذا موضوع خطير سوف نتناوله في مقال قادم. المزيد من مقالات محمد السعدنى