الفكرة قرأتها في جريدة الأهرام منذ فترة غير بعيدة, ربما في بريد الأهرام وربما كان هذا هو السبب في أن اسم كاتبها لم يعلق بذاكرتي بالرغم من أهمية الفكرة وطرافتها. الفكرة تقول في بساطة آسرة, هؤلاء البلطجية الذين ظهروا في حياتنا علي نحو يهدد الأفراد والجماعات, بل ويهدد السياحة واقتصاد البلد, بل أصبح يهدد ثورة25 يناير بعد أن تحولوا إلي أداة في يد الثورة المضادة تظهر فجأة كلما لاحت لها ثغرة هنا أو فجوة هناك, لماذا لا نجمع كل هؤلاء البلطجية من كل الأماكن التي تفرزهم, ونعطي كل واحد منهم خمسة أفدنة في أراضي توشكي التي تركها الوليد بن طلال, فنستريح منهم هنا ونستفيد منهم هناك. علي الرغم من إعجابي بالفكرة, فلم آخذها مأخذ الجد, فهي تبدو نوعا من الأفكار ذات المظهر البراق تشبه ما نسميه في الرياضة الضربة المزدوجة التي تحقق أكثر من هدف بفعل واحد في وقت واحد, لكن إمكانات نجاحها تبقي مرهونة بعوامل كثيرة قد تتوافر وقد يصعب توافرها, كدت أنسي الفكرة كلها, بعد أن تحدثت عنها بإعجاب إلي أكثر من صديق, ولكن النسيان الذي يكون نعمة أحيانا لا يتحقق دائما بسهولة, فقد عادت الفكرة تدق في رأسي بشدة, وبخاصة بعد أن تفاقم الدور المخرب الذي يقوم به هؤلاء البلطجية في حياتنا, بالتوازي مع حالة الضعف الأمني التي مازلنا نعاني منها, وبخاصة أن الناس جميعا يعرفون الكثير عن العلاقة الدائمة والآثمة بين قطاع كبير من هؤلاء البلطجية وعناصر من رجال الأمن, فبعض هؤلاء البلطجية كانوا في مرحلة سابقة من حياتهم من نزلاء السجون, وحين كانوا يغادرون سجونهم فإنهم يظلون لبعض الوقت تحت المراقبة من ضباط الشرطة في الأماكن التي يعيشون فيها لمعرفة إلي أي مدي نجح هؤلاء أو فشلوا في التكيف مع حياتهم الجديدة.. وفي حالة الفشل فإن مثل هؤلاء يصبحون عناصر صالحة لتقديم خدمات لرجال الشرطة في بعض المهام مثل توفير معلومات عن متهمين هاربين أو تزوير الانتخابات أو متابعة بعض الناشطين في العمل السياسي... الخ, هذه النوعية من البلطجية بالرغم من تنوع تركيباتهم النفسية إلا أنها تتفق في بعض الملامح النفسية, فهم من ناحية يعانون من القهر الذي يقع عليهم من رجال الشرطة الذين يستخدمونهم, فيعيدون توجيه هذا القهر إلي المواطنين الذين يوقعهم سوء الحظ تحت طائلتهم فيما هو مطلوب منهم من مهام لرجال الشرطة, بعض هؤلاء البلطجية يدمن الحياة في هذه الدائرة المغلقة التي يعتاد فيها أن يكون مقهورا في موقع وقاهرا في موقع آخر, فهل تصلح مثل هذه الشخصيات المكبلة بهذه الحالة أن تتحول إلي فلاحين منتجين, منفتحين علي الطبيعة والناس يعملون في سلام طوال الفصول في انتظار ما تجود به الأرض الطيبة من محصول في نهاية الزرعة أو في نهاية العام. بعض هؤلاء البلطجية متزوج وينجب أطفالا, يتمني لهم حياة أفضل من حياته, ويدرك علي نحو ما أن ما هو فيه ينبغي ألا يتكرر في حياة أولاده, فهل يكون هذا النوع من البلطجية هو فقط من ينبغي أن نأخذهم إلي توشكي ؟! مع أن خطوط حياة البلطجية تتقاطع في معظم الأحوال مع خطوط حياة الشرطة, إلا أن هناك منابع كثيرة للبلطجة تظل لبعض الوقت تعمل بعيدا عن الشرطة, فالعشوائيات, والمناطق النائية, والأسواق في الأرياف والموالد في المدن وشتي التجمعات الشعبية, تظل كلها مصادر متجددة لفرز ما لا حصر له من أنواع البلطجية, مسألة القضاء علي ظاهرة البلطجة ليست مسألة سهلة إذن, وهي لابد أن تحل في إطار توفير حلول لمشكلات المنابع التي تفرز هؤلاء البلطجية, ثم لابد أن تكون هناك دراسات جادة يقوم بها مختصون في مجالات الطب النفسي وعلم النفس الاجتماعي والإحصاء لفرز هؤلاء البلطجية وتصنيف حالاتهم, وتحديد من يستحق منهم أن يذهب إلي توشكي أو إلي شرق العوينات أو إلي سيناء ومن يستحق أن يبت القضاء في أمره! ومن يذهب للعلاج في مصحة! وما الجهة أو الجهات التي عليها أن تقوم بتجفيف المنابع التي تفرز هؤلاء البلطجية؟وما الجهة التي عليها أن تختار هؤلاء المختصين من أهل العلم والخبرة, والتعاون معهم لإنجاز دراساتهم الجادة حول أحوال هؤلاء البلطجية, ليكون القرار بشأنهم علي هدي وبصيرة! وقبل ذلك كله, ومن أجل العدالة التي هي من أهم شعارات ثورة25 يناير لابد أن تكون هناك جهة قانونية توازن بشكل عادل بين ما ينبغي أن يخصص من الأراضي لهؤلاء البلطجية, وبين ما ينبغي أن يخصص لفلاحين شرفاء لا يعرفون مهنة غير زراعة الأرض ولا يمتلكون أرضا يزرعونها فلا يكون أمامهم سوي أن يعملوا كأجراء عند ملاك الأراضي, ويعيشون يوما بيوم من عرق جبينهم في زراعة الأرض! فهؤلاء أيضا ينبغي أن نفكر في حل مشكلتهم, فليس من العدل ولا من العقل أن نفكر بشأن حلول لمشاكل البلطجية لأنهم يهددون حياتنا ويزعجوننا, ونترك هؤلاء الفلاحين المسالمين الذين يزرعون أرضا لا يمتلكونها دون أن نمنحهم فرصة ينالها البلطجية!. هل ذهبت بعيدا وأنا أعيد التفكير في فكرة ألقي بها كاتب في بريد الأهرام لا أتذكر اسمه!! أم أن للأفكار المبدعة حياتها الخاصة حين تنتقل في جو من الحرية التي نعيشها الآن في مناخ ثورة25 يناير من عقل إلي عقل, ولماذا لا ألقي بهذه الفكرة التي تشبه كرة من النار إلي أيدي من سميتهم أهل الاختصاص لعلها تقلق راحتهم كما أقلقتني, مع يقيني التام بأنه لا أحد الآن في مصرنا العزيزة يملك ترف الشعور بالراحة ؟ لماذا لا أقذف بهذه الفكرة إلي المخرج والمنتج فمن حقهم المشاركة في تقدير كل ما يتصل بإخراج هذه الفكرة إلي أرض الواقع؟! وإلي أن تعطي كل ثمارها ؟! ولأن المخرج والمنتج هما من سيتفاوض مع الجهات التي تضع يدها الآن علي أراضي توشكي وشرق العوينات وغيرها من الأراضي الصالحة للزراعة, وقد يجدان أنه من الملائم إدخال تعديلات جديدة علي الفكرة وكما يفعل جميع المخرجين والمنتجين في كل الدنيا وفي كل الأفلام والمسلسلات ؟! وقد يفكر كلاهما, المخرج والمنتج أن يبعثا بعدد من قيادات الشرطة السابقين لإدارة هؤلاء البلطجية في مواقعهم الجديدة في توشكي أو في غيرها ليكون لهم شرف المشاركة في حل المشكلات التي شاركوا في صناعتها.