للوهلة الأولي استشعرت حالة من البلاهة, تجمدت عيناي علي السطر الأول, بل الجملة الأولي تحديدا مطيورة و راكبني جن و لا أرسي علي حال.. أرغمتني تركيبة العبارة أن أعاود قراءتها أكثر من مرة لأستشف ما أنا مقدمة عليه في رحلتي مع صفحات الصفصاف والآس, أحدث روايات سلوي بكر.. ملاحظتي لأعمال بكر الأخيرة، و تحديدا في روايتي البشموري والألماسي, تؤكد أن التركيبات اللغوية والاستعانة بكلمات غير مألوفة توارت في لفافات أوراق و كتب تراثية قديمة جزء لا يتجرأ من الحالة السردية للعمل ككل, الذي يشكل في مجمله إعادة بناء للماضي, عبر قراءة مختلفة للتاريخ تكشف الجوانب المسكوت عنها, أو تلك التي توارت تحت وطأة الشائع و المتعارف عليه بين عامة الناس, بل وأحيانا الخاصة. غريبة بشكل.. مطيورة و راكبني جن و لا أرسي علي حال..أشعر و كأن بجسدي أمواجا هادرة و براكين ثائرة.. الحركة تمتطيني فأروح و أجئ, أطلع و أنزل السلالم معظم الوقت... من بين غياهب الذاكرة أطلت صورة نونا الشعنونة, إحدي بطلات مجموعة سلوي بكر القصصية الأولي أو ربما الثانية.. تلك القروية الصغيرة النحيلة التي لم تستطع جدران منزل مخدومتها و لا أوامرها الصارمة و لا حتي الجهل و الفقر, اللذين أسلماها منذ البداية لمصير قريناتها, دافعين بها نحو وعد وقدر مكتوب لا مفر منه, أن يقتلوا فضولها و رغبتها في فك طلاسم حروف و كلمات يرددها سيدها الصغير, أو أن يحاصروا خيالها أو يخنقوا روحها المتوثبة الهائمة وراء رائحة الزنابق التي لم تعرف قط كنهها, لتحولها في نظر الجميع لحالة شاذة وليلصق باسمها صفة الشعنونة.. تري هل تحاول سلوي بكر أن تحكي ما كان و ترصد ما سطرته نونا بيديها بعد اختفائها و محاولتها للهروب مما سطر علي جبينها, وجبين كل من واجهن نفس ظروفها؟. إن هي إلا برهة قصيرة إلا وعدت لقراءة نفس العبارة, و لكني صممت قي هذه المرة ألا أتوقف عن القراءة أو أن أسمح لخواطري أن تحملني إلي أبعد مما تعنيه الحروف المتراصة أمامي, علي الأقل حتي أنتهي من قراءة بضع صفحات, أوأصل لبداية فصل جديد من رواية يشي حجمها بأنها نوفلا قصيرة أو قصة قصيرة طالت بعض الشيء بانتهائي من قراءة الصفحة الثانية بدأ العمل يكشف لي طلاسمه, ومع تتابع الفصول أظن أنني بدأت أقرأ بعضا من شفرته, فسلوي بكر في روايتها الجديدة تستكمل ما بدأته من قبل في عمليها السابقين من حيث توظيفها للغة, فها هي مرة أخري تستوحي من كتب التاريخ الكلمات وتراكيب الجمل و عبارات الحوار التي لا تعكس فقط اللحظات التاريخية التي تنتقيها, بل أيضا تحولها لعنصر أساسي في العالم الروائي الذي ترسمه لتصبح جزءا لا يتجزأ من صور القاهرة التي حدثنا عنها الجبرتي و التي اختارت الكاتبة أن تستوحي من بعض من أخبارها لقطة عابرة, أو ربما جملة تاهت في زخم الأحداث الجسام, فلم يتوقف أمامها المؤرخ و لا القارئ. ورغم أنني أشعر أن الصفصاف و الآس أشبه بقصة قصيرة طالت بعض الشيء أو رواية مختصرة إذ, لم ترو ظمئي كقارئة للغوص في أعماق الشخصيات الرئيسية التي شكلت عالم الراوية و المحيط العام الذي أودي بها لمصيرها المأساوي, ألا أنني أعتقد الخليط اللغوي المستوحي من كتابات فترة حملة بونابرت علي مصر( كما أطلقت عليه الراوية) وأسلوب الأنا في السرد أضفي علي العمل رحابة و خرج به من إشكاليات الروايات التاريخية واختيار حادثة عابرة سواء أكانت حقيقية أم من وحي خيال الكاتب, وفكرة الأحكام القيمية و التسلسل المنطقي للحدث, لتصبح اللحظة التاريخية المنتقاة, بغض النظر عن أهميتها أو خصوصيتها أو محدوديتها محملة بدلالات وإشارات و معان تتجاوز اللحظة أو الحدث الهامشي الذي استثار خيال المبدع. في هذا السياق أظن أن عنوان العمل الصفصاف و الآس بقدر ما قد يحمله من أكثر من دلالة موحية, بقدر عدد التساؤلات الوجودية التي يطرحها و التي أتصور أنها تمنح العمل امتدادا يتجاوز عدد صفحاته التي لم تصل للمائة.. فالصفصاف كما نعرفه في ريفنا المصري يشبهونه بالمرأة الباكية التي تحل شعرها و تتركه يتدلي ليلامس مياه الترع. و رغم أن الصفصاف شجرة غير مثمرة إلا أن القرويين يزرعونها علي جوانب الترع للحماية من حرارة الشمس و الرياح الحارة صيفا والرياح الباردة شتاء, كما تستخدم جذوعه لعمل مقابض لبعض الأدوات الزراعية أما الأغصان الصغيرة فتستخدم كحطب للوقود, أما الأس, وبسؤال حريفة أوراق الكوتشينة, فهو البريمو أو الأول ومن يملك4 آس يكسب في الكوتشينة, أما في التنس فالآس هو الضربة التي لا تصد و لا ترد. واعترف أنني كلما أمعنت النظر في نهاية زينب التي تحولت جدائلها, جواز مرورها الوحيد في ديوان الحريم, لمشنقة أزهقت روحها دون أن يطرف جفن جلاديها أو أبيها الذي سلمهم إياها متبرئا منها رغم علمه بكل ما جري و كان, بل ودفعها إليه, تقفز إلي مخيلتي صورة نونا الشعنونة, الهاربة قبل عشرين عاما من قدرها المسطور بيد أبيها و مخدومتها!!. كلتاهما بدت غريبة عن عالمها متمردة علي واقعها فلماذا اختلف المصير ؟.. لماذا تحولت زينب, المتمردة علي واقع الحريم, الحالمة بفضاء رحب تحوم فيه مثل الفراشات المحلقة فوق بستان بيت أبيها, آخر نقطة في حدود عالمها الضيق, لشجرة أخري باكية أو ربما مجرد عود حطب؟ لماذا سقطت زينب المسكونة بأحاسيس هادرة, تهز كيانها كله و تدفعها للدوران في رقصة محمومة و كأنها تشد نفسها خارج نطاق جاذبية عوالم تنفر منها, في فخ الواقع البديل الذي قدمه الآس أوبونابرته و لم تدرك زيفه و أنها اختارت أو سيقت لزنزانة أخري للحريم ؟ لماذا ظلت الرؤي التي تطاردها غامضة بالنسبة لها, واضحة كل الوضوح لأمها و مربيتها العجوز ؟هل كانت زينب رمزا لحالة المواجهة بين عالمين متناقضين, أم تجسيدا لحالة الاختلاف و اغتراب الروح في زمن لا يسمح إلا بالمألوف, أم نموذجا للمرأة المتمردة و المقهورة في آن واحد, أم حكاية مستوحاة من واقعة أو أخري, أم مجرد رقم في سجل أشجار الصفصاف ؟ ربما كانت كل هذا و أكثر.