كان من حظى أن أزور كثيرا من بلاد العالم القديم والجديد، وأتنقل فى أنحائها، فلا أرى حضورا للدين فى أى بلد يماثل حضوره فى مصر، ولا أجد تدينا يفوق تدين المصريين المسلمين والمسيحيين. وأنا لست أول من شهد هذه الشهادة، وإنما سبقنى كثيرون يعرفون أن مصر هى أم الديانات جميعا، وأن المصريين آمنوا قبل غيرهم بالله الواحد الأحد، وبالبعث واليوم الآخر، وأن الكنيسة المصرية أولى كنائس المسيح. وأن الأزهر منارة الإسلام فى الدنيا، والفضل فى هذا للمصريين الذين جعلوا الدين منذ بداية تاريخهم فطرة موروثة وحضارة متأصلة، وليس لجماعة بالذات، أو لسلطة أو لدولة من الدول التى استخدمت الدين فى مصر وفى غيرها أكثر مما خدمته، لأن الدين قبل كل شيء إيمان بالقلب، والحكومات والدول لا تنظر للقلوب، ولا تسأل عن النيات، ولا تهمها هداية المحكومين، وإنما تهمها طاعتهم وامتثالهم لها راضين أو مكرهين، فإن استولت على السلطة جماعة دينية، أو إذا تبنت الدولة دينا من الأديان، فالهدف الأول هو أن تفرض على الناس الصمت وتجعل طاعتهم لحكامهم من طاعة الله، ولو عاثوا فى الأرض فسادا! ونحن ننظر فى التاريخ القديم والحديث فلا نرى فضلا للدولة على الديانة، لا ديانتها التى تتبناها وتتحدث باسمها، ولا ديانة الذين يخالفونها أو يعارضونها. الإمبراطورية الرومانية بأباطرتها المؤلهين وجيوشها الجرارة وولاياتها المترامية وتشريعاتها وإداراتها لم تستطع أن تحمى ما كان سائدا فيها قبل المسيحية من عقائد موروثة، ولم تستطع فى المقابل أن تمنع المسيحية من الانتشار رغم تنكيلها بالمسيحيين واضطهادها لهم قرونا متوالية لم يكن فيها المسيحيون يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، لا سلطة، ولا دولة، ولا جيشا، ولا قانونا! وكما عجز أباطرة روما عن حماية دين آبائهم وقهر المسيحيين عجز سادة مكة رغم ما كان لهم من ثروة وسلطة وعدد وعدة عن حماية دين آبائهم وقهر المسلمين الذين كانوا فى مكة قلة من الفقراء المستضعفين الذين تمسكوا بعقيدتهم، وفروا بدينهم حتى كثر عددهم، وقويت شوكتهم، وعادوا إلى وطنهم فاتحين. ولقد استطاع الفلاحون الألمان رقيق الأرض البروتستانت أن ينتصروا على السلطات الكاثوليكية الدينية والسياسية التى تراجعت أمام حركة الإصلاح الدينى وعجزت عن الوقوف فى وجهها، سواء فى ألمانيا أو فى بريطانيا واسكندنافيا التى وجدت فى البروتستانية مسيحية جديدة تستجيب أكثر لمطالب العصر، وتحرر المسيحيين من أغلال العصور الوسطي. بل إن الدولة التى ترفع شعارات الدين ربما وقفت ضده إذا وجدت أن إيمان الناس به يتعارض مع مصالحها المادية. ومن ذلك أن بعض ولاة الأمويين فى مصر انزعجوا حين وجدوا أن أعدادا كبيرة من المصريين المسيحيين تعتنق الإسلام، لأن إسلام هؤلاء المسيحيين يعفيهم من دفع الجزية، وكان هؤلاء الولاة يفضلون أن يتقاضوا الجزية على أن يدخل رعاياهم فى الإسلام! فإذا كان الدين لا يكسب شيئا من ارتباطه بالدولة، بل يخسر الكثير كما رأينا، لأنه يتحول من علاقة خالصة مبرأة من الغرض بين الإنسان وربه إلى إذعان يفرضه الخوف والطمع، ولا يستفيد منه إلا الحكام، فبوسعنا أن ننظر فى الوجه الآخر للمسألة، أى فيما يترتب على فصل الدين عن السلطة السياسية وعدم الخلط بينهما، وأمامنا شاهدان: أوروبا المسيحية، وتركيا المسلمة. } } } فى أوروبا المسيحية كان الناس إلى نهايات القرن الثامن عشر يئنون تحت أغلال سلطتين متنازعتين فى أغلب الأحيان، سلطة دينية تهيمن على الأرواح، وسلطة زمنية أو سياسية تهيمن على الأبدان، وبما أن الروح لا تنفصل عن البدن، والبدن لا يحيا بعيدا عن الروح، فقد استمر النزاع بين السلطتين، لأن أيا منهما لا تستطيع أن تمارس هيمنتها إلا إذا تعدت حدود مملكتها الخاصة وجارت على جارتها. هكذا كان رجال الكنيسة يتدخلون فى شئون الحكم، وكان الحكام يتدخلون فى شئون الكنيسة، والنتيجة فساد الدنيا وفساد الدين، العقل معطل، والأرض خراب، والحياة جوع ومرض، والحكم طغيان، والدين خرافات وشعوذات وصكوك غفران، والحرب دائرة بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسيحيين واليهود، وبين الكاثوليك والأرثوذكس، وبين الكاثوليك والبروتستانت، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الملوك والملوك، وبين الأمراء والأمراء. هذا الجحيم لم تخرج منه أوروبا إلا بالعلمانية من ناحية، وبالديمقراطية من ناحية أخري، العلمانية، وهى ليست الكفر والإلحاد كما يدعى الجهلاء وشهود الزور، وإنما هى بكل بساطة فصل الدين عن الدولة، والديمقراطية، وهى حكم الشعب نفسه بنفسه، والأولى شرط للأخري، لأن خلط الدين بالدولة يفرض على الشعب حكاما يزعمون أنهم ظلال الله على الأرض وأنهم معصومون فلا يحق لأحد أن ينقدهم أو يحاسبهم، فإذا منعنا هذا الخلط أصبح من حق الشعب أن يختار حكومته، ويعارضها، ويغيرها كما يحدث فى كل البلاد الديمقراطية التى لم تتحرر ولم تتقدم إلا حين فصلت الدين عن السياسة، وجعلت الشعب مصدر كل السلطات، وأقامت الاجتماع على أساس المواطنة، أى المشاركة فى الوطن لا فى العقيدة، وأقرت حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، فاستيقظ العقل، وازدهر العلم، واستقام الحك، وتضاعفت الثروات، وأصبحت أوروبا على ما هى عليه الآن. فكيف كانت تجربة الأتراك مع العلمانية؟ وماذا كانت نتائج فصل الدين عن الدولة فى تركيا؟ } } } كانت السلطنة العثمانية، التى ورثت الخلافة الإسلامية عن العباسيين وظلت إلى أوائل القرن التاسع عشر محافظة على نظمها الموروثة عن العصور الوسطي، قد عجزت عن مواجهة أعدائها الأوربيين الذين نهضوا نهضة عارمة فى كل المجالات مكنتهم من طرد الأتراك من ممتلكاتهم فى البلقان وأوروبا الشرقية، بل لقد استطاع اليونانيون الذين حرروا بلادهم من الأتراك فى القرن التاسع عشر أن ينتقلوا للهجوم على تركيا ويحتلوا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى مدينة أزمير استعدادا لاحتلال الأناضول، فلم يقف فى وجههم إلا ضابط شجاع هو مصطفى كمال الذى أنقذ تركيا، وهيأ لها حياة جديدة، واستحق بهذا أن يحمل لقبه الذى خلعه عليه الأتراك، وهو »أتاتورك« أى أبو الأتراك! كان السلطان المهزوم محمد السادس قد أصبح دمية فى أيدى الحلفاء الأوروبيين المنتصرين فتنازل لهم عن كل ما طلبوه وعندئذ لم يجد الضابط الشجاع أمامه إلا أن يلجأ للأتراك ويدعوهم للقتال دفاعا عن أنفسهم فالتف حوله الآلاف وقاتلوا معه وأوقعوا الهزيمة باليونانيين وطردوهم من الأناضول. وهكذا أصبح أتاتورك معبود الأتراك، وأصبح عليه أن يواصل مسيرته وينقذ بلاده، ليس فقط من أعدائها الأجانب، بل أيضا من حكامها الرجعيين الذين خانوا شعبهم واستعبدوه، وظلوا يتسترون وراء الإسلام ويزعمون أنهم خلفاء الرسول، فكيف واجههم أتاتورك؟ لقد ألغى الخلافة لأنها نظام بال يقوم على الاستبداد والانفراد بالسلطة، وفصل الدين تماما عن الدولة، وألغى الامتيازات الأجنبية، وأبطل استعمال الطربوش والعمامة والحجاب، وأحل القوانين المدنية محل القوانين المستقاة من الشريعة الإسلامية، وحين رشح نفسه رئيسا للجمهورية انتخب بالإجماع ثلاث مرات. والنتيجة هى تركيا التى خرجت من الضعف إلى القوة، ومن الفقر إلى الغني، ومن الطغيان إلى الديمقراطية، والفضل يرجع لفصل الدين عن الدولة، وهذا ما نريده لمصر. } } } نحن لا نريد من الدولة أن تبنى لنا قصورا فى الجنة، وإنما نريد منها أن تساعدنا على بناء منازل أو شقق مناسبة فى مدينة 6 أكتوبر، أو فى القاهرةالجديدة بأثمان أو إيجارات تناسب دخولنا. لا نطالب الدولة بأن تخفف عنا عذاب القبر، وإنما نطالبها بأن تخفف زحام المرور، وأن توفر لأبنائنا أماكن فى المدارس ولمرضانا أسرّة فى المستشفيات.. أما الدين فلا حاجة له بالدولة لأن قلوبنا ومساجدنا وكنائسنا عامرة به، وما على الدولة إلا أن تضمن لنا حرية الاعتقاد، أى حقوق الإنسان والديمقراطية. المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي