دخلت الأزمة الحالية في ليبيا شهرها الخامس منذ أيام قليلة. أربعة أشهر مضت منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات في بنغازي ليلة الخامس عشر من فبراير، وشهدت ليبيا خلال هذه الفترة أحداثاً تختلف كثيراً عما شهدته كل من تونس ومصر. ففي خلال الأربعة أشهر الماضية انقسمت الدولة في ليبيا إلي شطرين، شطر غربي يخضع لسيطرة القذافي ويشهد الكثير من الترويع والقمع وسوء الأوضاع المعيشية، وشطر شرقي يخضع لسيطرة الثوار، ويمر أيضاً بظروف معيشية صعبة وغير عادية، ولكنه يشهد قدرا كبيرا من الحرية التي لم تعرفها ليبيا منذ أكثر من أربعين سنة. ومثلما انقسمت الدولة في ليبيا إلي قسمين، انقسم العالم إلي قسمين أيضاً بين مؤيد ومعارض للعمليات العسكرية في ليبيا والتي يتولي تنفيذها حلف الناتو وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1973. وبعد مرور هذه الفترة غير القصيرة، اختلف العديد من الأوضاع داخل ليبيا عسكرياً وسياسياً، كما اختلفت المواقف الإقليمية والدولية حول ما يجري داخل ليبيا من أحداث. عسكرياً، مازال السجال دائرا بين كتائب القذافي من ناحية وجيش الثوار المدعوم بضربات حلف الناتو الجوية من ناحية أخري. ولعل التغير الأكبر الذي طرأ علي المشهد العسكري في ليبيا هو التأمين التام للأراضي المكتسبة في الشرق الليبي، بل واتساع الرقعة الجغرافية الخاضعة لسيطرة الثوار. فعندما بدأت الغارات الجوية التي قامت بها في أول الأمر كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في منتصف مارس، كانت كتائب القذافي علي أبواب مدينة بنغازي، وكان القصف الجوي من قبل طائرات القذافي يصنع مظلة جوية تتقدم قواته تحت ظلها شرقاً. ولكن منذ بدء تطبيق حظر الطيران منذ ثلاثة أشهر، تقهقرت قوات القذافي غرباً بعد معارك كر وفر متتالية مع جيش الثوار، حتي باتت الآن تسيطر فقط علي طرابلس والمدن التي تقع في محيطها. وبالرغم من التصعيد العسكري الذي قام به حلف الناتو في الأسابيع الأخيرة والذي تضمن تكثيف القصف علي طرابلس واستخدام المروحيات لاستهداف مواقع غير تقليدية بصورة أدق وخسائر أقل، لم يختلف الواقع العملياتي علي الأرض كثيراً منذ بدء السجال العسكري في ليبيا. ويلاحظ أن هناك نمطا في القتال بدأ يتبلور، إذ يبدأ القتال بإطلاق نيران متبادل بين جيش الثوار وقوات القذافي، وبعد أيام من القتال تتراجع قوات القذافي غرباً، في حين يحاول جيش الثوار الحفاظ علي ما اكتسبه من ارض لحين إعادة التنظيم ثم التقدم نحو طرابلس، وفي هذه الأثناء تعود قوات القذافي لمهاجمة الثوار ولكن ليس بغية اكتساب ما خسرته من ارض حيث إنها حتي وإن أجبرت الثوار علي التراجع فهي لا تتقدم، ولكن ما يحدث هو عملية إضعاف للقدرات التنظيمية للثوار حتي تستطيع قوات القذافي إعادة التمركز في مواقعها في الغرب. يبدأ الثوار بعد ذلك في التقدم غرباً لاستعادة السيطرة علي المدن المحررة في حين تتراجع قوات القذافي في اتجاه الغرب لحماية المدن الأقرب لطرابلس. هذا النمط عادة ما يحدث علي مدي فترة زمنية من خمسة إلي عشرة أيام (مع استثناء حصار مصراتة الذي امتد لفترة زمنية أطول من ذلك بكثير) وفقاً للطبيعة الجغرافية والأهمية الإستراتيجية لمناطق النزاع. وتكرر هذا النمط في المعارك حول أجدابيا، ثم راس لانوف والبريقة، ثم مصراتة، كما يتكرر الآن حول زليطن. ويشير هذا النمط لحقيقتين، الأولي أن الآلة العسكرية لمعمر القذافي قد تم إضعافها بشكل كبير، والثانية أن قوات القذافي تفتقد للرؤية الإستراتيجية، فهي تتأقلم مع الواقع العملياتي ولكنها لا تبادر بصنعه. علي الصعيد السياسي، تطور الوضع كثيراً منذ بدء الثورة في ليبيا، إذ بدأ المجلس الوطني الانتقالي في كسب المزيد من الدعم السياسي داخلياً وخارجياً. كثف المجلس الانتقالي من زياراته الخارجية في الفترة الماضية، وهي الجولة التي أثمرت عن عدد من الوعود بتقديم مساعدات اقتصادية للمجلس وعدد من الاعترافات بالمجلس الانتقالي كمحاور شرعي أو كممثل أوحد للشعب الليبي. ولعل الرؤية المؤسسية والمعتدلة التي طرحها المجلس الانتقالي لمستقبل ليبيا ساعدت علي درء الكثير من الشكوك حول مستقبل ليبيا بعد القذافي، خاصة بعد ظهور بعض المخاوف من صوملة الوضع في ليبيا في حال رحيل القذافي المفاجئ. كما أن البلاء الحسن الذي يبليه المجلس الانتقالي في إدارة الشرق الليبي يُعد أحد أسباب اتساع التأييد السياسي للمجلس داخل ليبيا. ولكن لم يكن سلوك المجلس الانتقالي النشيط وأداؤه الفعال هو العامل الوحيد الذي ساعد علي تغيير التوازنات السياسية داخل ليبيا وخارجها، بل كان هناك أيضاً سوء إدارة للأزمة من قبل معمر القذافي ونظامه. فحتي هذه اللحظة يرفض معمر القذافي الاعتراف بالثوار كمواطنين يطالبون بحقوقهم السياسية، ولم يحاول هو أو أحد مسئوليه أن يطرح فكرة إقامة حوار مع الثوار، وكل ما فعله النظام في ليبيا هو إبداء الاستعداد لوقف إطلاق النار (لم يترجم لأفعال) دون التطرق لمشروعية مطالب الثورة. وتأرجحت مواقف القذافي من المجتمع الدولي بين التهديد من مآلات الوضع في حال رحيله، والترغيب في شراكة قوية مع ليبيا في حال بقائه. ولعل القذافي لم يدرك بعد كل خسائره السياسية منذ بدء الأزمة، ولكنه بالتأكيد فقد كل رأس المال السياسي الذي عول عليه في بداية الأزمة. فالتهديدات التي أطلقها سيف الإسلام القذافي في خطابه الأول بتخريب الاستثمارات الغربية في النفط الليبي وتغييب الرقابة علي سواحل ليبيا لفتح بوابات الهجرة غير الشرعية، أصبحت كلها وقائع يتعامل معها العالم بالرغم من بقاء القذافي في طرابلس. وتتجلي خسائر القذافي السياسية أكثر في تبدل الموقف الروسي من رفض التصويت علي قرار مجلس الأمن إلي مطالبة القذافي بالتنحي، كما تظهر هذه الخسائر أكثر في تغيير مواقف دول كانت رافضة لفكرة التدخل العسكري كألمانيا والتي اعترفت مؤخراً بالمجلس الانتقالي وتعهد وزير خارجيتها في بنغازي بتقديم مساعدات اقتصادية لليبيا. وصار القذافي يلعب بكروت سياسية لا يمتلكها حقاً في يديه، فهو يراهن علي اللحظة التي ترفض فيها البرلمانات الأوروبية تمويل العمليات العسكرية في ليبيا، وقد يساعده في هذا التفكير موقف الكونجرس الأمريكي الذي رفض استمرار القوات الأمريكية في المشاركة في العمليات العسكرية في ليبيا. ولكن هناك فارق بين موقف أوروبا وموقف أمريكا من ليبيا، فليبيا في النهاية وتحت قيادة معمر القذافي باتت تشكل تهديداً أمنياً لأوروبا، كما أن تبرير عملية عسكرية تستمر لأكثر من ثلاثة اشهر ولا تثمر عن شئ لن يكون مهمة سهلة علي القادة الأوروبيين. وبالرغم من أن المعركة لم تحسم بعد في ليبيا، فإن المعطيات والوقائع تشير لصعوبة استمرار القذافي حاكماً علي ليبيا، فهو لا يمتلك آلية سياسية تساعده علي إعادة إحياء نظامه مرة أخري، ولا يمتلك في ذات الوقت آلية أمنية تساعده علي استعادة الاستقرار والسيطرة علي الرقعة الجغرافية الشاسعة التي خرجت عن سيطرته، وهو بالطبع لا يمتلك ما يكفي من دعم دولي يساعده علي إعادة احتواء ليبيا في المجتمع الدولي، فالقذافي إن بقي، سينزلق بليبيا لمستنقع من العقوبات والعزلة الدولية لن تتعافي منه في المستقبل القريب. وعلي الصعيد الآخر، تبدو الفرص كثيرة أمام المجلس الوطني الانتقالي، والمعارضة الليبية بالمهجر، وبعض الحركات الاجتماعية التي تشكلت في الآونة الأخيرة لقيادة مرحلة بناء دولة في ليبيا في حال رحيل القذافي. ولهذا بات ضرورياً أن يتم التنسيق بين الضغط السياسي والعسكري للنجاة بليبيا من حرب دموية ومستقبل غير آمن صار حتمياً إذا ما بقي القذافي.