هل كان يمكن لرقعتنا هذه من العالم أن تتفادي اللجوء إلي الانتفاضات والثورات والاستعواض عنها بإصلاحات تدريجية تجنبا لما نحن فيه من توابع للزلزال الذي فاجأنا من عدم وضوح للرؤية والانفلات الامني وانخفاض معدل الإنتاج والتأثير السلبي البالغ علي النشاط السياحي. بالاضافة إلي محاولة كل فريق الادعاء بأنه صاحب الفضل في تفجير الشرارة الأولي وبالتالي يحق له أن يقطف الثمار دون غيره؟ وللاجابة عن هذا السؤال علينا أن ندرك أن الثورات الشعبية لا تقوم لمجرد أن هناك رغبة لقوي اجتماعية معينة في تغيير احوالها والارتقاء بأوضاعها, بل إن هذه القوي تذهب إلي انتهاج طريق الثورة مضطرة بعد أن تسد في وجهها مختلف الطرق الاخري التدريجية والتوافقية والدستورية وإن كانت ظاهرة الثورات الشعبية تدين بظهورها أصلا إلي عالم قديم مضي وانقضي لأن العقل السياسي الحداثي والليبرالي استطاع انتاج الوسائل التي تمكن من احداث التوازنات الاجتماعية وضبط توازنات السلطة والقوة والثروة وذلك عن طريق تحويل الانتماءات الاولية إلي انتماءات قومية, فأصحاب الديانات والأعراق المختلفة كلهم ينتمون إلي نفس الوطن, وأيضا من خلال فصل السلطات ونهوض المجتمع المدني وإعلاء شأن سلطة القانون والقضاء وتكريس مبدأ تداول السلطة بواسطة التمثيل والاقتراع والبرلمانات مما يفسر غياب الثورات في الدول الديمقراطية علي الرغم من كل ما تتعرض له من أزمات اقتصادية أو سياسية, ففي نظم سياسية تنتمي إلي الحداثة أي إلي عالم الحرية والعقل والمدنية باتت الثورات بمثابة درس من التاريخ وكأنها شيء متقادم لم تعد ثمة حاجة إليه إلا للموعظة أوالذكري ولكن الأمر في بلداننا يختلف تماما فثمة نظم سياسية متقادمة تاريخيا وهي مازالت مصرة علي تأكيد سيطرتها بوسائل الاستبداد والفساد, وهذا وحده فقط يجعل من الثورات علي هذا الوضع ظاهرة معاصرة تعيد إنتاج ذاتها كما نشهد في هذه المرحلة وان كنا نصف تلك الثورات الحديثة بربيع الديمقراطية العربية ونشبهها بربيع الديمقراطية في أوروبا في نهاية القرن العشرين, فيجب ألا يغيب عنا أنه كانت هناك خلفية ليبرالية ذات أبعاد فلسفية جذرية في الرؤية إلي الإنسان والمجتمع والسلطة والنظام السياسي رافقت الديمقراطية الغربية بينما نفتقدها هنا في العالم العربي علي الأقل خلال الوقت الحالي. حيث اننا مازلنا نترنح بين ايديولوجيا ماضوية رافضة للديمقراطية بمفهومها التعاقدي الحديث وايديولوجيا حداثية هشة طارئة في العقل والخطاب السياسيين العربيين, فهل هناك قبول لدي جماهير الثورات العربية بالمساواة المواطنية دون تمييز بين الاشخاص؟ وهل هناك إقرار بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة؟ وهل هناك فعلا في الشارع العربي تصور حداثي لأسس السلطة ودور الحاكم وموقعه في المجتمع والدولة أو هناك اعتراف جدي بحرية الرأي والاعتقاد والتفكير والتعبير؟ ليس جديدا القول إن بعض التيارات والجماعات التي ساندت الثورات لا تنطلق من خلفية ليبرالية تقوم علي احترام استقلال الفرد والحريات السياسية والدينية والمدنية, فالاخوان يتحدثون عن دولة مدنية بمرجعية إسلامية أي دولة مدنية بمرجعية دينية, وهذا خلط غير مفهوم, فالدولة إما أن تكون مدنية تستوعب كل الأديان والتيارات المختلفة, وإما أن تكون دينية حيث يصنف كل من يختلف معها علي أنه كافر! كما صرح السيد صبحي صالح القيادي الاخواني بأنه لا يوجد مسلم ليبرالي أو مسلم يساري, وانما فقط مسلم وكافر! أما السيد راشد الغنوشي أكبر منظري الثورة التونسية والقيادي الإخواني المعروف فإنه لا يري حلا لإشكالية الأقليات في المجتمعات العربية سوي الحكم الذاتي! أي تحتكم إلي قوانينها وأعرافها الطائفية في استعادة لنظام الحكم العثماني. يبدو أن زمنا ليس بالقصير قد ينقضي قبل أن تتبلور لدينا ايديولوجية ليبرالية تسمح بالانتقال الفعلي إلي الديمقراطية التي يبدو ان مخاضها الجدي والعسير قد بدأ بالفعل. د.عماد إسماعيل