الخائفون في مصر الراهنة كثيرون, فالأقباط يتخوفون من تحولهم إلي مواطنين من الدرجة الثانية بعد إزالة القيود التي كبلت جماعات إسلامية لديها من الأفكار والمبادئ ما يمثل تهديدا لوضع الأقباط وحقوقهم كمواطنين مصريين لهم كافة حقوق المواطن في بلد لا يميز بين أبنائه. الأقباط ليسوا وحدهم الخائفين من صعود تيارات إسلامية ولكن أيضا مصريون كثر من أنصار تيارات ليبرالية واشتراكية يرون أن صعود تيارات دينية متشددة يمكن أن يضع الكثير من القيود علي الحرية التي يعتبرونها الهدف الأسمي والقيمة العليا التي في غيابها يسود الخوف ويعم القمع. هذه المخاوف ليست قصرا علي المصريين المتأثرين بالأفكار الليبرالية والاشتراكية, ولكنها منتشرة أيضا في أوساط غالبية من المصريين العاديين من غير أنصار الليبرالية أو غيرها من التيارات السياسية, وهم نفس المصريين المتدينين الذين اختاروا التدين بمحض إرادتهم الحرة, والذين علي قدر تدينهم يخافون من أن يأتي يوما تحرمهم فيه السلطة حرية اختيار التدين, ولكن تقهرهم عليه, فتمنعهم حلاوة ونعمة حرية اختيار التقوي, وتفرض عليهم تفسيرا لمعني الدين والتدين لم يختاروه, فتتدخل في شئونهم دون اختيار منهم. الأمن هو نقيض الخوف, وهو الحاجة الأكثر أهمية وأولوية للناس جميعا, وهو الحق الأسمي الذي لا يمكن التنازل عنه, والذي يجب علي أي نظام سياسي ناجح توفيره للمواطنين. قد ينتج الخوف من تهديد الرزق وفرصة كسب العيش, وقد ينتج عن وجود عصابات إجرامية تهدد الأنفس والأموال والأعراض, أو ينتج عن تهديدات موجهة لهوية الفرد ومعتقداته, كما قد ينتج عن وجود تهديد لحرية الفرد وحقه في التعبير عن نفسه واختيار نوع الحياة التي يحبها لنفسه ولأولاده, وتأمين الناس ضد كل هذه المخاوف والتهديدات هو علامة نجاح النظام السياسي, والمرحلة الانتقالية التي تمر مصر بها هذه الأيام ما هي إلا مرحلة انتقال من نظام ساد فيه الخوف والتهديد, إلي آخر جديد يوفر للناس أمن الأشخاص والممتلكات والعقائد والهوية. تميزت مصر قبل الخامس والعشرين من يناير بوجود درجة عالية من اليأس في تحسن الأحوال, وبدرجة عالية من الغضب بسبب التعسف والفساد, وبدرجة عالية قليلة من القلق الناتج عن غموض مستقبل بلد كان مقبلا علي استحقاقات سياسية مصيرية. غير أن الخوف لم يكن من بين المشاعر التي سادت بين المصريين قبل الخامس والعشرين من يناير, ربما باستثناء الخوف الذي كان يصيب البعض ممن اختاروا موقف المعارضة الصريحة للنظام بآلته القمعية التي لم تكن تعرف الرحمة, أو الخوف الذي كان ينتاب البعض ممن وضعهم حظهم العثر في طريق تحقيق مطامع فاسدين ومستبدين عتاة كونوا مراكز نفوذ قوية نتجت عن تداخل المال والسياسة. أما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير فإن مشاعر الغضب تراجعت, وتواصلت مشاعر القلق من مستقبل مازال غير واضح المعالم, وانتشرت مشاعر الخوف, ولعل مشاعر الخوف المنتشرة هذه هي مفتاح فهم الحالة المصرية الراهنة, ومفتاح الخروج الآمن منها أيضا. الإسلاميون هم التيار الوحيد الذي لا تبدو عليه مظاهر الخوف, علي العكس فإنهم يتصرفون كما لو كانت هيمنتهم علي الدولة والمجتمع باتت مضمونة, وراحوا يتصرفون بثقة صارت مصدرا لخوف الآخرين. ثقة الإسلاميين مبررة, لكن ثقتهم المفرطة تعكس نقصا في النضج, وقراءة خاطئة لتاريخ مصر القريب ولواقع الحال في البلاد. ففي الواقع الراهن ما يجب أن يخيف الإسلاميين كما فيه ما يخيف غيرهم. فثورة الخامس والعشرين من يناير كانت أكبر من قدرة أي تيار سياسي منفرد علي القيام بها. أما مصر بعد الثورة فإنها بتنوعها وتعقيداتها ومشكلاتها أكبر من أن يحكمها تيار سياسي وحيد ينفرد بوضع دستورها وتقرير مصيرها, وتورط الإسلاميين في تجاهل الآخرين ومخاوفهم لن يؤدي سوي إلي احتشاد كل الآخرين ضدهم, وعندها ينفتح الطريق واسعا لإحباط الآمال والتطلعات الكبري لمصر ديمقراطية, ولنا جميعا فيما حدث في الخمسينيات عبرة ودرسا عندما كان ضرب قوة سياسية واحدة مقدمة لضرب القوي السياسية جميعها, فدخلت البلاد في ستين عاما من السلطوية. فتأسيس نظام يقوم علي تعدد القوي السياسية وتوازنها هو طريق مصر نحو الديمقراطية وهو الضمان الأكبر لتحقيقها, ولن يكون من الممكن تأسيس نظام ديمقراطي بغير التخلي عن طموحات الهيمنة لدي البعض, وتأمين الجميع ضد الخوف من التهميش والقمع. الخوف المنتشر في أركان المجتمع المختلفة يتركز في هذه المرحلة علي مسألة الدستور الجديد, وما إذا كان الدستور المنتظر سيتحول إلي أداة لتكريس الخوف الذي يشعر به الكثيرون, أم أنه سيصبح وسيلة لتأمين المصريين بكل فئاتهم ضد الخوف. ولمحاربة الخوف المنتشر علينا تغيير أكثر من جانب من جوانب طريقتنا في التعامل مع كتابة الدستور الجديد, وأهم ما يجب إعادة النظر فيه هو طريقتنا في التعامل مع الدستور المنتظر بالامتناع مؤقتا عن التأكيد علي الأهداف التي نريد للدستور أن يحققها, فهذا يأتي في مرحلة تالية, أما في المرحلة الأولي الحالية فعلينا البدء بتحديد الأشياء التي لا نريد لها أن تظهر في الدستور, والمخاطر التي يجب علي الدستور تجنبها, وهي نفس الأشياء التي تعكس أسباب الخوف الموجودة في المرحلة الراهنة لدي كل طرف. وكقاعدة عامة أظنها تلائم مصر في المرحلة الراهنة, فإن أي جماعة أو فرد في مصر يجب ألا يجد نفسه بعد الثورة في وضع أسوأ مما كان عليه قبلها, وإلا تحولت الثورة في نظر هؤلاء إلي تطور سلبي يتمنون لو لم يحدث. فلا يجب لمستوي احترام حقوق الإنسان وحريات التعبير والنشر والتنظيم والإبداع الفني وحرية العقيدة والحريات الشخصية في مصر بعد الثورة أن يكون أقل مما كان عليه الحال قبلها, وإذا حدث شيء من هذا فلن يكون فيه سوي دليل مؤكد علي فشل الثورة وعلي إخفاقنا في استثمارها لبناء نظام ديمقراطي. فلا يجب في مصر بعد الثورة أن يخاف أي ناشط سياسي من الاعتقال التعسفي أو من انتهاك حقوقه إذا ما تعرض للاعتقال, ولا يجب لداعية إسلامي أن يخاف من فرض القيود علي حريته في التعبير, ولا يجب لفتاة منقبة أو محجبة أن تخاف من تمييز تمارسه السلطات وأصحاب الأعمال ضدها, ولا يجب لأي فنان أو مثقف أن يخاف من أن حريته في التعبير ستكون مقيدة بدرجة أسوأ مما كان عليه الحال في ظل النظام السابق, ولا يجب لقبطي أن يخاف من احتمال تحوله إلي مواطن من الدرجة الثانية, أو من فرض مزيد من القيود علي حريته الدينية ولا علي تمتعه بالمساواة مع مواطنيه من المسلمين, ولا يجب لمواطن مصري أن يخاف من أن حريات شخصية تمتع بها قبل الثورة سوف تكون مقيدة وموضع لرقابة ومطاردة الدولة بعد الثورة. ديمقراطية الأغلبية والأقلية هي ديمقراطية إجراءات, أما الديمقراطية المبنية علي إزالة الخوف وليس إشاعته, فهي ديمقراطية مواطنين يوفر لهم النظام الديمقراطي الحماية ويؤمنهم ضد الخوف ويفتح لهم آفاقا لتطوير أوضاعهم وتحسينها, دون أن يجعلهم مهمومين بالبحث عن طريقة لحماية أنفسهم ضد مظالم وتغولات يفرضها عليهم دستور ونظام سياسي يسمي نفسه ديمقراطيا. تحويل التفكير في مستقبل دستوري يؤمن الناس ضد الخوف إلي إجراء عملي يقتضي البدء في حوار جاد تضع فيه أطراف المجتمع المختلفة من قوي سياسية واجتماعية أسوأ مخاوفها علي مائدة الحوار, بحيث يصبح توفير الضمانات اللازمة لإشاعة الشعور بالأمان ولطمأنة الخائفين ضد أسوأ مخاوفهم هو البند الأول في حوار وطني حقيقي حول مستقبلنا الدستوري. المزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد