بعد عام واحد من خطة إنقاذ مالي تكلفت110 مليارات يورو تقف اليونان علي عتبة خطة إنقاذ ثانية تتكلف أكثر من65 مليار يورو علي مدي ثلاث سنوات. هناك تساؤلات قوية حول فرص نجاح الخطة الجديدة ومبررات أقوي تدعو للاعتقاد بأنها مجرد مهلة لشراء الوقت تتيح لكل الأطراف الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والبنوك الأوروبية تسوية خلافاتها والاستعداد لما هو حتمي وهو إعادة جدولة ديون اليونان حتي تستعيد ثقة الأسواق. الخطة الأولي التي تم ابرامها في مايو2010 كان المفترض أن تمكن اليونان من استعادة قدرتها علي الاقتراض من الأسواق بحلول عام2012 وهو ما لم يتحقق. وبالتالي فقد كان من المنطقي أن تساعد الخطة ب اليونان علي بلوغ هذا الهدف من خلال خطوات تؤدي إلي خفض أعباء الدين حتي وإن تطلب ذلك أن يتحمل الدائنون بعض الخسائر. ولكن هذا الهدف لا تحققه الخطة الجديدة التي اصطدمت بالأجندات السياسية للانتخابات الألمانية والفرنسية خلال العامين المقبلين والتغيرات المرتقبة في قيادة صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي الذي سيتقاعد رئيسه الحالي المتشدد جان كلود تريشيه في أكتوبر المقبل. الخلاف الرئيسي كان بين ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي. فقد كان من المستحيل علي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اقناع المواطن الألماني وكذلك دول مترددة مثل فنلندا وهولندا وغيرهما بقبول الإسهام في تمويل خطة الإنقاذ الجديدة دون تغيير في قواعد اللعبة, وتطبيق المعايير الجديدة التي أصرت ألمانياعلي إدخالها حين تم الاتفاق علي صندوق تسهيلات أوروبية بقيمة500 مليار يورو. وبصفة خاصة البند الخاص بضرورة مشاركة الدائنين سواء كانوا بنوكا أو حملة السندات السيادية من القطاع الخاص في تمويل الخطة سواء بقبول بعض الخسائر في إطار عملية إعادة جدولة الديون أو مد آجالها, أو الالتزام بعدم المطالبة بها حين يأتي أوان السداد وهو ما اصبح يعرف بمبادرة فيينا التي طبقت في عام2009 علي دول وسط وشرق أوروبا وأسهمت في تجنيب هذه الدول ويلات الانهيار المالي وحماية البنوك الأوروبية من تحلل دفاترها المثقلة بقروض قدمتها لهذه الدول. الحلقة المفقودة البنك المركزي الأوروبي رفض من جانبه أي محاولة لإعادة جدولة الديون, وأصر علي الاستمرار في اجراءات التقشف وتصعيدها, وحذر من تداعيات أي عملية جدولة لليونان علي خطط الإنقاذ الأخري في أيرلندا والبرتغال, وعلي السلامة المالية للبنك, وعلي النظام المصرفي الأوروبي كله. واعتبر تريشيه ما قد يحدث بمثابة كارثة تماثل ما حدث مع سقوط بنك ليمان براذرز في عام2008, بل هدد في حالة الاقدام علي هذه الخطوة بامتناع البنك عن قبول سندات الحكومة اليونانية ضمانا لتقديم قروض جديدة وهو ما قد يعني بالتأكيد إفلاس اليونان. من الناحية النظرية تبدو لتحفظات تريشيه وجاهتها. لكن من الناحية العملية يري المحللون أن إعادة جدولة الديون السيادية اليونانية التي تبلغ340 مليار يورو بحيث تنخفض أعباؤها إلي نسبة90% من الناتج المحلي الاجمالي سيترتب عليه خسائر للبنك المركزي الأوروبي تقدر بنحو3,12 مليار يورو ترتفع إلي8,15 مليار يورو في حالة اتخاذ ترتيبات مماثلة لأيرلندا والبرتغال. هذا الرقم لا ينبغي الاستهانة به فهو يمثل نسبة19% من رأسمال البنك(81 مليار يورو) ولكنه لن يؤدي إلي انهياره ويمكن تعويضه بمطالبة المسهمين في البنك من دول منطقة اليورو بزيادة رأسماله إسوة بما حدث العام الماضي حين تم ضخ خمسة مليارات يورو في رأسماله. هذه الخطوة قد تسبب احراجا للبنك ولكنها حل أفضل من الأخطار التي قد تتعرض لها البنوك الأوروبية وبنوك اليونان إذا وصلت إلي حافة الإفلاس. البيانات تشير إلي أن البنوك المركزية في منطقة اليورو محملة بقروض قيمتها242 مليار يورو قدمتها إلي البنوك اليونانية والأيرلندية والبرتغالية مقابل ضمانات في شكل سندات سيادية ورهونات عقارية. ويكفي تحمل هذه البنوك خسارة نسبتها27% من هذه القروض لتحدث أزمة حقيقية إذا أضيف إليها ما تحوزه هذه البنوك مباشرة من سندات سيادية. هذا السيناريو الكابوسي يمكن وأده باتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة رسملة الحلقات الضعيفة في النظام المصرفي حتي يمكنها تحمل الخسائر في حالة تعرض دول الأطراف في منطقة اليورو لأزمات في السداد. المشكلة إذن تتلخص في عدم توفر شبكات الأمان الكافية للنظام المصرفي وهي الحلقة المفقودة في طريقة إدارة أزمات منطقة اليورو بسبب عدم توافد الإرادة السياسية اللازمة لدي الكبار وبصفة خاصة ألمانيا وفرنسا لاقناع المواطنين بها. ولهذا تمضي الأزمات الأوروبية في حلقة دائرية مفرغة من خطط تقشف مفرطة تنتهي بالفشل حتي يتمكن السياسيون من اتخاذ القرارات الواجبة والصعبة أما الثمن فقد يكون اجتماعيا حين يتمرد المطحونون تحت وطأة مطرقة التقشف القاسية كما حدث في إسبانيا مؤخرا. خطة مراوغة في هذا الاطار يمكننا النظر إلي خطة الإنقاذ الثانية المطروحة علي اليونان ومحدودية تأثيراتها ونتائجها. فهي خطة مصممة لإرضاء السياسيين وليس لتحقيق علاج جذري للأزمة. نقطة الاختلاف الرئيسية عن الخطة السابقة هي أنها تشترط حلا للخلاف الناشب بين ألمانيا وتريشيه أن يقبل الدائنون طواعية مد آجال سداد الديون حين يأتي أوان سدادها وهو ما اصبح يطلق عليهReprofiling س لها في القيمة. هذا الحل يرضي ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي, لأنه لا يتضمن خفضا لقيمة الدين في إطار عملية إعادة الجدولة أو ما يطلق عليه haircut س الخاص في عملية الإنقاذ, وهو ما اشترطته ألمانيا مقابل تقديم التمويل الإضافي الذي طلبه صندوق النقد الدولي حتي تستمر مشاركته في سداد دفعة القرض بنحو12 مليار يورو تستحق في الشهر الحالي, حتي تتمكن الحكومة اليونانية من الوفاء بالتزاماتها الدولية وتمويل نفقات عاجلة. العيب الأساسي في هذا الحل هو أنه يبقي نسبة الدين وأعباءه إلي الناتج القومي الاجمالي علي حالها, وأنه يصعب اقناع الدائنين الذين لم يعدوا بنوكا يمكن التفاهم مع رؤسائهم خلف أبواب مغلقة بل حملة سندات أفراد منتشرون في كل أنحاء العالم. وأن اقناعهم لا يمكن أن يكون بتهديدهم بفقد أموالهم ولكن بتقديم جزرة كما حدث مع خطة ز س دفعهم إلي بيع الديون في أسواق ثانوية وعدم الإقدام علي شراء سندات جديدة. هناك كذلك نقاط عديدة مثيرة للجدل في خطة الإنقاذ الثانية منها ان تكلفتها النهائية ستتجاوز رقم100 مليار يورو إذا لم تستعد اليونان القدرة علي الاقتراض من الأسواق في2013 و.2014 وإلي جانب ما تضمنته من بنود التقشف السابقة مثل خفض الانفاق العام وتسريح العاملين في الحكومة, وزيادة حصيلة الضرائب تبلغ قيمتها الاجمالية ستة مليارات يورو, تبرز النقطة الجديدة وهي الإسراع بعملية الخصخصة تحت إشراف أجانب بهدف تجميع نحو50 مليار يورو بحلول عام2015 من خلال عملية بيع أصول مملوكة للدولة مثل شركات الاتصالات والتلغراف ومكاتب البريد وميناءين علي أن توجه الحصيلة لسداد الديون. ميزة بيع الأصول أنها تحقق إيرادات لتخفيض أعباء الديون دون خفض مستوي الطلب الداخلي. لكن هناك شكوكا قوية بشأن امكانية قبول البرلمان لإشراف خارجي علي عملية البيع, كما أن الحصيلة المتوقعة مشكوك فيها لأن ملكية الدولة لبعض هذه الأصول هي محل نزاع قانوني, كما أنه يترتب علي عملية الخصخصة تسريح العاملين ومن ثم ارتفاع معدل البطالة وتعميق الركود المحلي, وانخفاض حصيلة الضرائب وتصاعد حدة الاستياء المحلي من فترات التقشف الطويلة. لكل الأسباب السابقة يزداد الاعتقاد بأن خطة الإنقاذ الثانية ستكون قصيرة الأجل, وأنها لا تعدو أن تكون مهلة يشتري بها السياسيون وقتا يستعدون فيه للخطوة التي بدونها لن تنجح أي خطة وهي إعادة جدولة الديون إلي مستوي يتيح لليونان الابقاء علي نسبة الدين إلي الناتج المحلي الاجمالي مقبول اجتماعيا, ويسمح بهامش للنمو, ويجعل كل الأطراف بما في ذلك البنوك وحملة السندات يتحملون جانبا من خسائر مخاطرتهم بالاقراض, وأن يتفهم السياسيون في الطرف الشمالي من منطقة اليورو ان استعادة الثقة مع الطرف الجنوبي يتطلب تفهما دقيقا للقيود التي يفرضها عليهم بقاؤهم داخلها علي وسائل خروجهم من أزمتهم ومن ثم فإن مساعدتهم ليس نوعا من المن بل جزء من الحفاظ علي مصالحهم. لكن الاقدام علي هذه الخطوة المنطقية يقف دونه الحسابات الانتخابية للسياسيين والتغييرات في مؤسسات نقدية لها تأثيرها, وبنوك أوروبية لم تتهيأ هياكلها بعد لتحمل الصدمات, بما في ذلك احتمال عجز عضو في منطقة اليورو عن سداد الديون. فالعربة لا زالت أمام الحصان وحتي يتغير الوضع سيستمر الانتقال من أزمة إلي أخري دون بوصلة حقيقية للحل. المحررة