تصدر مشهد الوحدة الوطنية أحداث ووقائع ثورة25 يناير, في ميدان التحرير وفي كل الميادين والأماكن التي انخرطت في جغرافيا الثورة وأكتسب هذا المشهد دلالات ومعاني تفوق في مضمونها وعمقها وحدة الهلال والصليب ليصل إلي تغليب الانتماء المصري علي الانتماء الديني أو انصهار هذين الرمزين الدينيين في معدن واحد, ورمز واحد هو الوطنية المصرية الجامعة وجذورها الراسخة في الضمير والوجدان والتاريخ. هذا المشهد الذي تجلت فيه الروح المصرية والعبقرية المصرية في أثناء الثورة, يتعرض لاهتزاز إثر تواتر أحداث الفتن الطائفية في أطفيح والدويقة ومنشية ناصر وأبو قرقاص وأخيرا في إمبابة, التي تفوقت علي ما سبقها من أحداث طائفية بعدد المصابين والضحايا من المصريين مسلمين ومسيحيين, وبدا الأمر للمواطن والمراقب كما لو كان مشهد الثورة المصرية في25 يناير وما بعده, مشهدا استثنائيا, يختلف عما قبل الثورة, وما بعدها أيضا, بل كأن مصر التي شاهدناها وعرفناها في أثناء الثورة لم تعد هي مصر التي نراها الآن وبعد مضي ما يفوق المائة يوم علي الثورة. وفي تقديري المتواضع أن المشهد الراهن بغموضه والتباسه استند إلي فهم غير دقيق من مختلف الأطراف الفاعلة الآن, وكذلك إلي تشخيص غير صحيح لطبيعة المرحلة الانتقالية ومهماتها ودور الدولة والنظام بعد الثورة, ونتيجة لهذا الفهم وهذا التشخيص اختلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح, وأصبحت كل الهواجس والمطالبة بصرف النظر عن عقلانيتها ورشادتها, مشروعة وممكنة, وأن الاحتكام إلي الفوضي والضغط والشارع هو الفيصل في هذه المرحلة! ومع كل التقدير لدور القوات المسلحة في رعاية وحماية الثورة فإن المجلس الأعلي للقوات المسلحة باعتباره صاحب السلطة الشرعية في المرحلة الانتقالية والحكومة كذلك قد نظرا إلي هذه المرحلة باعتبارها مجرد نقطة عبور قصيرة إلي المرحلة التي تليها, أي لا تحتاج إلي الحسم وانتزاع بؤر التوتر الممكنة ووضع لبنات وأسس جديدة تهييء لبناء النظام القادم, ونتيجة لذلك لم يتمكن المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة من استخدام صلاحياتهما لاستتباب النظام والأمن, وذلك لأن المرحلة الانتقالية لا تعني البتة تغييب القانون وضرورة تطبيقه علي الخارجين عنه كذلك ضرورة التمييز في هذه المرحلة الانتقالية بين المطالب الفئوية المشروعة والخروج عن القانون وإرتكاب الجرائم, فالتعبير عن المطالب الفئوية المشروعة ينبغي أن يتم وفق القانون وبطريقة سلمية ودون إخلال بالنظام العام ودون تعطيل للمرافق العامة التي تخدم ملايين المواطنين في حين أن قطع الطرق والتعدي علي دور العبادة واستخدام الأسلحة النارية ضد المواطنين هي جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات دون لبس أو إبهام. وبناء علي ذلك فإنه حتي المسيرات والمظاهرات السلمية ينبغي أن تتم في ظل القانون بمعني حصول الراغبين علي القيام بهذه المسيرات والمظاهرات علي تراخيص بموعد وتوقيت هذه المظاهرات وخطوط سيرها; وذلك حفظا للأمن وسلامة المتظاهرين. إن الكثير من الأعمال المخالفة للقانون خاصة في أحداث الفتنة الطائفية تم تسويته بالطرق العرفية التقليدية ولم يطبق القانون علي مرتكبي هذه الجرائم, ونحن نستطيع أن نفهم ونقدر الرغبة النبيلة من جانب المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة في تجنب استخدام القوة والسلطة, في مواجهة شعب عاني من فرط استخدام القوة والسلطة, وقام بثورته من أجل معاملة كريمة لمواطنيه, بيد أن استخدام القوة وتطبيق القانون لا يرتبطان بالضرورة بسوء المعاملة أو هدر الكرامة, فالنظام البوليسي فقط هو الذي يقرن تطبيق القانون بإهدار الكرامة وقسوة المعاملة. من ناحية أخري فإن إنهيار النظام القديم قد أطلق بعض القوي والتيارات الدينية من عقالها وتصورت ألا قيد علي تحقيق طموحها السياسي والتطلع إلي دولة إسلامية, خاصة تلك القوي التي جعلت من الاستفتاء غزوة وجعلت من كاميليا معركة أخري وفي إمبابة جعلت من عبير غزوة ثالثة راح ضحيتها اثنا عشر مواطنا مسلما ومسيحيا فضلا عن عشرات المصابين, تمتاز هذه القوي بعلو الصوت وصخبه وتوجهها للفضائيات والإعلام, وذلك لأنها تعلم علم اليقين أن طموحها وشعاراتها مفارقة للواقع الذي يؤازر مبادئ المساواة في الحقوق والواجبات ومبادئ المواطنة بصرف النظر عن الدين والملة والاعتقاد, وهي الشعارات التي حركت الثورة وتضمن تحقيق حلمها في دولة قوية ومدنية وديموقراطية وتؤمن التعددية والمساواة بين الجميع. لقد فهمت القوي الدينية أن انهيار النظام القديم وضعف الدولة والنظام الجديد يمثلان فرصة ينبغي اغتنامها قبل فوات الأوان عبر الحشد والتعبئة واستثمار المشاعر الدينية للمصريين واستباق كافة الأحزاب الجديدة في الاستحواز علي مساحة كبيرة من اهتمام الرأي العام. وإذا أضفنا إلي ما تقدم أن الأداء السياسي عموما للدولة لم يتخلص بعد من نمط التفكير القديم والسابق علي قيام الثورة, ومن ثم أصبح هناك تضارب بين الواقع المتغير والقرارات التي تصدر وفق نمط العقلية السابقة علي الثورة, فمساحة الحوار تبدو قليلة قياسا بالمهمات المطروحة وجدول الأعمال الوطني رغم الإعلان عن بدء الحوار الوطني, وقنوات الاتصال والتشاور بين قوي الثورة والمؤسسات القائمة تبدو ضئيلة إن لم تكن منعدمة, والحال أن اتخاذ القرار يغيب عنه محصلة عناصر فاعلة وستظل فاعلة إلي أمد طويل ولا تعكس القرارات محصلة التفاعل الوطني, وذلك فضلا عن هشاشة النظام الأمني حتي الآن وافتقاده الثقة بالنفس في مواجهة الخارجين عن القانون. إن المشكلات والتحديات الحقيقية للثورة تبدأ بعد نجاحها في إسقاط النظام القديم, ذلك أن المهمة الأساسية والوحيدة أثناء الثورة ولكل قواها وفصائلها هي إسقاط النظام وتنصرف كل الطاقات نحو هذه المهمة أما بعد إنجاز هذه المهمة فإن الواقع يطرح مهمات جديدة ونوعية ومتعددة وتتعرض الثورة لآثار وتداعيات فك التعبئة التي كانت قائمة وتنصرف أغلب القوي التي شاركت في الثورة وتوحدت خلف مهمتها الأساسية أو بعضها نحو أجنداتها الخاصة برامجها الخاصة وهو الأمر الذي يتطلب إعادة ترتيب مهمات وأولويات الثورة بعد نجاحها وتحقيق توافق وطني حول هذه المهمات بين كافة الأطراف; المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة والشعب والقوي الثورية. إن مصير الثورة الشعبية المصرية أكبر بكثير من مصير كاميليا شحاته وعبير فخري وغيرهما, فهذه حالات فردية تدخل في خانة حرية الاعتقاد والمعتقد مع توافر حماية أصحابها ضد كل أشكال العسف والتعدي وفق أحكام القانون, ولاشك أن ضعف الدولة وغيابها وعدم تطبيق القانون هو الذي يسمح بتدخل كل الأطراف الأخري ومنح نفسها الحق في الحلول محل الدولة دون سند قانوني ودون تفويض من أحد مهما كانت النيات حسنة أو سيئة, والمفترض ألا تتخلي الدولة عن صلاحياتها في تطبيق القانون وحماية المواطنين وتأمين حياتهم لأحد مهما كانت مكانته الدينية ومهما كان موقعه. إن الفتنة هي نتاج لاستدعاء أسوأ ما فينا وأسوأ ما في ممارسات النظام السابق علي الثورة, في حين أن الثورة استنهضت أنبل ما في أنفسنا وما في تاريخنا ووضعتنا علي مشارف حقبة جديدة من تاريخ مصر نعيد فيه أكتشاف ذواتنا فرادي وجماعات ونستكشف فيه مكنون القوة الحضارية والثقافية في عمق التكوين المصري الضارب بجذوره في أعماق الضمير الإنساني, ولو تذكر كل منا ذلك وجعله حاضرا في وعيه ووجدانه لما أقدم أي منا علي الانخراط في أي عمل من أعمال الفتنة من قريب أو من بعيد, تلك الأعمال التي تبقينا حيث كان النظام السابق يريد أن نبقي, أي مقيدي العقل والتفكير بالإطار والنمط الذي كان سائدا من قبل, بدلا من الانتقال إلي الأفق الرحب لأنماط جديدة في التفكير والممارسة بعيدا عن التعصب والتطرف. إن إدارة المرحلة الانتقالية هي ضمان نجاح الثورة وصمام الأمان في تأسيس النظام الجديد, حيث أن هذا النظام الجديد لن يكون شيئا آخر سوي حصاد ما تم وضعه من لبنات وما تم اتخاذه من قرارات في ظل الروح الجديدة التي أعقبت نجاح الثورة.