يختلف وضع الحدث واثره عند من يشهده ويعيشه يوما بيوم, يختلف عند المؤرخ الذي يكتبه بعد سنوات, ولكل حال مزاياه وعيوبه, فقد تغلب العاطفة الجياشة علي من يعاصر ثورة, فيحكم عليها متأثرا ببدايتها وتفاعلها السريع مع الحياة والتطور, اما المؤرخ قد يميل الي العقلانية بعد توافر وثائقها, ونجاح وفشل تجربتها,وهذه محاولة لالقاء ضوء علي مسيرة ثورة الشباب التي تعايشنا معها اياما طويلة بعدان فاجأت الوطن والعالم العربي والدنيا بأسرها, وان كنا لانؤمن بالمصادفة او ضربة لازب او حظ وانما نعتقد ان احداث البشر والحياة لاتأتي من فراغ او تسقط من عل, بل هي نتاج فكر يسري فيحرك العقول المتوهجة, وطموح غرس في اعماق الانسان لينطلق دوما الي الافضل, فالانسان رحالة عقلي ونسيج كيانه دوما يصبو الي الترقي, ولاشيء في هذا الوجود بدون اسباب او دوافع.. ولاتخلو العاطفة او العقل من الصدق. اول مايظهر من ملامح ثورة الشباب, انها تخطت الثورات التقليدية التي حدثت بين السنوات1970 1980 دون التوغل في الثورات القديمة خلال العصور, ثورة الشباب في مصر تختلف تماما عن ثورات آبائهم واجداداهم التي اصبحت في ذمة تاريخ قديم جاءت من خلال حضارة العصر وادواتها, بعد ان اصبح الفضاء الواسع مفتوحا وامتدت شبكات الاتصال الي كل اطراف الدنيا, وتدفقت المعلومات كسيل عرمرم, بل اقترب الانسان من فقدان اسراره الخاصة, انه عصر القوة الذرية والثورة الرقمية, اقتحمت الثورة صمت المجتمع المصري في غير عنف وبلا سلاح الا سلاح الكلمة, والتضامن, والاصرار, لم تحمل معها ايديولوجية او عقيدة سياسية, فالمتظاهرون او المحتجون, واقعيون, عمليون, براجماتزم او جزت اهدافها في كلمة واحدة ارحل دون استدعاء عقيدة دينية او طرح برنامج مابعد ارحل لم يستعينوا بالنصوص المقدسة كما فعلت ثورات سبقت كثورة الجزائر سنة1980, فالهدف واضح لالبس فيه, ازالة النظام التسلطي, وفضح الفساد المستشري والفاسدين المتوحشين, يطالبون بالحرية والمساواة, والعدالة( الديمقراطية) ولايعني ذلك ابدا انهم من العلمانيين او الملحدين بل علي العكس, اقاموا الصلاة ورفعوا التضرعات ليؤكدوا علي احترامهم للقيم الدينية, لم يخلطوا في ثورتهم بين ماهو ديني وماهو سياسي, تجنبوا زج الثورة او انزلاقها في صراع, فثورتهم تمس المشهد السياسي والاجتماعي, انهم وطنيون لاشك في ذلك, ملأوا ساحة التحرير بالعلم المصري فيما يشبه مظلة واقية, واحتضن الهلال الصليب في لمحة تاريخية اوجزت تاريخ مصر وطبيعتها الحضارية, مصروين دون تطرف في وطنيتهم او تعصب يمس العلاقات بين امم العالم, صديقة اوعدوة,واخترقت صيحاتهم فضاء مصر ليتردد صداها في العالم العربي بل وفي انحاء الدنيا. هذا الجيل الثائر تعددت ثقافته, وتنوع فكره وبقدر ماهو فردي او شخصاني بقدر ماهو جماعي مترابط, هدفه التغيير والتقدم, انه جيل له اخلاق حضارته وعصره, يتميز عن الاجيال التي سبقته بغزاره المعلومات, يتعايش مع عضر الغلاء الفاحش, ولايميل الي كثرة الانجاب, يشعر بمرارة البطالة والتهميش الاجتماعي, يتواصل مع ابناء جيله تواصلا فرديا, اي تواصل شخص بشخص او في مجموعات صغيرة, دون الانتماء لحزب سياسي او رغبة في سلطة اونفوذ,انه الجيل الذي يود ان يعيش بكرامة وان يستمتع بالحياة, وقد ايقن هذا الشباب فشل الدولة التي تلتحف الاوثاب الدينية في اقامة نهضة عصرية ومجتمع سوي, لانها تفرض ايديولوجيتها فرضا وتهمل ابسط مباديء الترقي مثل تنمية حرية الضمير والتفكير, واثراء الوجدان بالجمال والاداب وتنزلق هذه الدولة الي هوة الديكتاتورية الدينية, لم يلتفتوا الي ثورات استعبدت الانسان باسم الدين وادركت تماما الفرق ا لشاسع بين التدين المظهري الشكلي وبين الايمان الراسخ علي القيم الاخلاقية والنبل والامانة, ومنذ بداية حركتهم نادوا بأعلي صوت: سلمية, سلمية, وفصلوا بين ماهو سياسي وماهو ديني, ممااكسبها موافقة غالبية الشعب المصري, انها ثورة مصرية, جاءت من عمق التاريخ والحضارة المصرية حتي صرح باراك اوباما بأن العالم كافة يتعلم من مصر. نادت الثورة بالكرامة المصرية, واحترام الانسان المصري, انهامباديء انسانية عالمية, اما الديمقراطية التي تريدها فليست تلك التي نادي بها بوش سنة2003 ولم تجد قبولا في العالم وازعم ان بوش لم يكن علي دراية بالتاريخ وبأن لكل بلد خصوصيته وتراثه, فالفوضي الخلاقة التي اخترعها تحولت الي فوضي هدامة في اغلب البلدان التي سيطرت عليها امريكا, وهل كانت الدول الكبري علي مر التاريخ تسعي لغير مصالحها ؟! الشباب المصري يريد ديمقراطية مصرية لها ملامحها الانسانية المعترف بها في الدنيا بأسرها ولها ملامحها المصرية الاصيلة وهذا احد تحديات المستقبل فالتمرد وحده لايصنع ثورة, والثورة وحدها دون علم لاتصنع تقدما,ومن ملامح ثورة الشباب انها لم تقدم قائدا لها, كماانها لاتنتمي الي حزب سياسي ولايحركها تيار ديني او ايديولوجية د ينية. ومثل هذه الثورات الشعبية العامة قد تنجح في ارساء قواعد ديمقراطية حقيقية اذا ظلت متضامنة, ملتحمة بالقاعدة الشعبية, دون صراع علي سلطة اومال, ومن اروع معالمها انها تخطت وعبرت بالوجدان المصري الي مجتمع لايسمع فيه وبخاصة ابان ذروتها ماكان يقال عن فتنة طائفية, وذكرتنا بثورة1919, وبدت مصر في صورتها الحقيقية, اما لماذا لم تتسم ثورة الشباب بملامح دينية او طائفية, فالأمر لايحتاج إلي تفكير طويل, لقد ادرك شباب هذا الجيل الفشل الذريع الذي اصيب به مشروع القاعدة التي سلخت آلاف الشباب من اوطانهم, واقتلعتهم من جذورهم, وحصرتهم في خنادق وكهوف ولم تحقق هدفا من أهدافها يثبت دعواها ومصداقيتها بل اضحت كابوسا يجثم علي انفاس العالم وبخاصة بلدانا العربية, ادرك شباب هذا الجيل من خلال وسائل الاتصال ان الزمن تخطي منهج القاعدة, وان العالم بات اسرة واحدة وسقط تقسيمة الي شرق وغرب,. ومن ثم تجنب الشباب الثائر خلط الدين بالسياسة وكأنه يعلن بداية عهد جديد, مصري خالص, بعيد كل البعد عن فخاخ المذهبية, والقبلية, والطائفية. ومن ملامح الثورة التي قام بها في شجاعة وصمود, انه شباب ولد من رحم الطبقة الوسطي, التي لم ينجح تحالف السلطة ورأس المال في ان يسقطها, وقد ظن كثيرون انها في طريقها للذوبان بعد ان انقسم المجتمع المصري الي فئتين, واحدة بيدها السلطة والمال والجاه,وفئة مطحونة تحت غلاء فاحش وعجز بين في ا لخدمات والتعليم حتي سكت صوتها واستكانت لهذا الشقاء, واذ بأبناء الطبقة الوسطي التي انجبت سعد زغلول والضباط الاحرار والعلماء والمبدعين واهل الادب والفن وائمة الدين, هي التي ولدت في زحام العصر هؤلاء الشباب الذين لم يظلم وجدانهم كثرة مال, ولم يلوث اخلاقهم بؤس العوز والحاجة, واكد بذلك ان الطبقة المتوسطة هي العمود الفقري للمجتمع, وضميره الواعي وامله الدا ئم للتنمية والتقدم, و سبب اخرلغياب الشعار الديني البراق في عدة ثورت عربية( الجزائر اخيرا, اليمن, تونس) يكمن في ان الصحوة الدينية التي غمرت البلدان العربية خلال العقود الثلاثة الماضية شرقا وغربا كرست جهودها وطاقاتها لدعوة تمس مظهر الحياة وقشرتها, دون السعي لوضع برنامج سياسي محدد ودون رؤية اقتصادية تنموية واضحة, لقد واجهت النظم الحاكمة التطرف الديني والعنف والارهاب وحاولت التصدي للتعصب والتطرف الاانها لم تجتهد في علمنة المجتمعات وتحدثها بهمة جادة منظمة, وظلت التيارات الدينية ابعد مايكون عن تغيير اعماق الانسان وفتح افاق للفكر والنقد والتحليل, ولم تقدم الاجابة عن اسئلة جوهرية في قيمة الحرية والعدل والمساواة كما لم تسع لايجاد حلول جذرية لقضايا الحياة اليومية بل لعبت علي وتر العاطفة الدينية, ولم تهتم بالتعايش السلمي بين البشر. ويبقي سؤآل نختم به.. الي اين تمضي مصر بعد الثورة ؟ ان الثورة ليست نهاية التاريخ والتطور الانساني له قوانينه, الترقي الي الافضل له تضحياته, ولن يتغير المجتمع بين يوم وليلة, وماالثورات ا لا نورا علي الطريق, و ثورة الشباب المصري انارت طريقا للمستقبل, واعادت مصر الي مكانتها الحقيقية, رائدة للعالم العربي وعقله وقلبه واسمعت الدنيا صوت مصر وانها لم تزل درة الشرق ذلك لايعني اننا خرجنا من الازمات الاقتصادية الخانقة, والدروب السياسية المتعرجة, ولم نخترق حواجز الطريق الي حضارة الحرية والعدل. ان الثورة وضعت مصر والعالم العربي علي الطريق الصحيح, فهل نجاهد متحدين كي لايضيع منا الطريق.