كلما ينظر الانسان الي مايجري حوله في دول الربيع العربي, حيث ينتفض الشباب طلبا للحرية والديمقراطية, في تونس وسوريا واليمن وليبيا, لايملك سوي التشبث بعبقرية الثورة المصرية وتفردها, لأنها نجحت, برغم متاعبها الكثيرة الراهنة, في أن تصون شعبها وجيشها, وتدرأ عن الوطن مخاطر الانقسام والفرقة والحرب الأهلية, وتعدد الولاءات المختلفة تشق صفوف الشعب الواحد, ليس فقط لأن التمدن المصري جاوز عهود الأسرة والقبيلة منذ أن عرفت مصر الدولة الواحدة قبل أربعة آلاف عام, أو لأن الوضع في مصر كان أكثر فسادا استفز الشعب بأكمله, أو لأن الجيش المصري الذي أثقل كاهله مشكلة التوريث انحاز في وقت مبكر لثورة شعبه ووفر علي البلاد مخاضا صعبا, أو لأن الرئيس السابق فطن في لحظة حاسمة فارقة تحت ضغوط الشعب والجيش الي ان الأمر لم يعد يصلح معه العناد والمكابرة, ولكن لأسباب أخري عديدة, يعود معظمها الي الجذور الحضارية لهذه الأمة التي جعلت الجيش والشعب يدا واحدة, يتناغمان في حوار حر خلاق وصريح يضمن للشعب وحدته وللثورة أمنها وسلامتها واستمرارها وهذا ما لم يتوافر بعد في دول شقيقة لا تزال تعاني مخاضا صعبا ومؤلما لم نتبين في ظلمته بعد الخيط الأبيض من الخيط الأسود. في ليبيا يركب العقيد القذافي رأسه, يعاند في الرحيل برغم سقوط شرعيته لأكثر من مائة سبب وسبب, أبسطها أنه دمر مقدرات بلده وشن عدوانا ظالما علي أهله, دمر الحياة وأحال معظم المدن الليبية الي خرائب مثالها المفجع في مصراتة, التي تحولت الي اطلال خربة لمجرد أن الناس خرجوا الي الشوارع في مظاهرات سلمية تطالب بالحرية والديمقراطية بعد أربعة عقود من حكم ديكتاتوري فاسد وسفيه, لكنه عاند وكابر ووقع في الخطأ الذي ارتكبه صدام حسين, وفتح أبواب بلاده للتدخل الخارجي, وبرغم ان العقيد فقد80 في المائة من قوات جيشه, وتفككت دولته بعد أن انكسر حاجز الخوف, وهرب معظم جنرالاته ورجاله, وأصبح محاصرا مع أسرته في حفرة تحت الأرض خوفا من طائرات الناتو التي تطارده علي مدار الساعة, لايريد الزعيم الليبي الذي لايزال يعيش في عالمه الافتراضي, يتصور وهما أنه أمير قلوب كل الليبيين, ان يختصر آلام شعبه, أو يفهم معني ان يتفق الغربيون والأمريكيون والروس وغالبية العرب والنسبة الأكبر من شعبه علي ضرورة ان يرحل, لكنه لايزال يكابر, يطالب بوقف القصف الجوي ويبدي استعداده للحوار مع الثوار, ويعتبر ذلك أقصي مايستطيع تقديمه لابديل عنه سوي الطوفان! لكن الحقيقة المؤكدة انه لم يعد أمام العقيد أو أي من أولاده فرصة الاستمرار في حكم لفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل, ولم يعد أمامه سوي أيام معدودات, بينما يتوسع اعتراف المجتمع الدولي بسلطة القائمين علي الحكم الانتقالي في بنغازي الذين يؤازرهم الآن غالبية المجتمع الدولي, علي حين لايجد القذافي صديقا واحدا يقف الي جواره, لكن ما من شك ان الليبيين يدفعون ثمنا باهظا لرحيل نظام بغيض مكنته ثورة البلاد النفطية من أن يتسلط علي الحكم40 عاما اشتري خلالها ولاءات الكثير من الأعوان والقادة رغم سفه تصرفاته! وكان واحدا من أهم عوامل فساده وسقوطه الرغبة في توريث الحكم. وفي اليمن, لايزال الرئيس علي عبد الله صالح يراوغ شعبه برغم مظاهرات الاحتجاج السلمية التي شملت كل المدن اليمنية في الشمال والجنوب لأكثر من ثلاثة أشهر, سقط خلالها عشرات القتلي والجرحي في ساحات صنعاء وتعز وعدن, ورغم أن أصدقاءه الأمريكيين أسقطوا شرعيته, لكنه لايزال يرفض الرحيل ويخلف وعوده أكثر من مرة, مصرا علي أن يغرق بلاده في أتون الحرب الأهلية بعد أن تمزقت أوصالها الي ممالك صغيرة, في الشمال, حيث يسيطر الحوثيون علي مدينة صعدة بعد أن استولوا علي مؤسسات الدولة والجيش, وفي الجنوب حيث تسيطر جماعات القاعدة علي مدينة زنجبار قريبا من عدن في عملية مشبوهة, يؤكد عدد من قادة الجيش اليمني أنها تمت بإيعاز من الرئيس اليمني الذي يستخدم القاعدة كفزاعة لتثبيت حكمه, علي حين تحاصر قبائل حاشد أكبر القبائل اليمنية العاصمة صنعاء وتفرض سيطرتها علي عدد من مؤسسات الدولة والجيش, تناصر شيخ مشايخها صادق الأحمرالذي توعد الرئيس اليمني بالخروج حافيا من اليمن بعد أن قصف داره وسط العاصمة صنعاء. ويبدو أن الحرب الأهلية هي مصير اليمن المحتوم, ما لم تستعد القوات اليمنية التي تمزقها الولاءات القبلية وحدتها وتنقذ البلاد من هلاك مدمر, وتكاد تكون الظاهرة الإيجابية الوحيدة في اليمن هو صمود مئات الآلاف من الشباب اليمني في ساحات المدن اليمنية لأكثر من ثلاثة أشهر يطالبون الرئيس صالح بالرحيل, ويرفضون توريث حكم اليمن لأي من أبنائه, ويصرون علي الاستمرار في احتجاجاتهم السلمية, برغم العدوان البشع الذي يتعرضون له, ويبدو ايضا ان خروج اليمن من هذا النفق المظلم رهن بأن يتوحد الجيش اليمني وتتوافق قياداته علي مساندة انتفاضة الشباب اليمني, الأمر الذي كشف عنه البيان رقم واحد الذي صدر بتوقيع عدد غير قليل من قادة الجيش. وفي سوريا تحاصر القوات المسلحة السورية العديد من المدن في الشمال والجنوب تقتحمها وتفتشها بيتا بيتا حتي جاوز عدد القتلي ألف شهيد وبلغت أعداد المعتقلين أكثر من عشرة آلاف, ويسوء الموقف يوما وراء يوم دون أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود, لأن الأسرة الحاكمة التي ابتدعت توريث الحكم في العالم العربي تصر علي سحق الانتفاضة الشعبية مهما يكن الثمن, برغم أن العالم يمد حبال الصبر للرئيس السوري بشار, أملا في أن يختار طريق الاصلاح السياسي بدلا من العنف والصدام. وفي مصر, كما هو الحال في تونس وقع التغيير المنشود برغم صعوبته في حدث فريد في التاريخ الانساني, بدل حال مصر علي نحو جذري, وأنهي عصر الفراعين لأن الجيش والشعب اختارا أن يكونا يدا واحدة, يتناغمان في حوار صريح خلاق تميزه جدلية صحيحة تقبل بمراجعة المواقف علي الجانبين, وتبدي قدرتها المستمرة علي تصحيح الخطأ علي المسارين وتلزم كل طرف أن يجتهد كي يتفهم متطلبات الطرف الآخر ومشاكله, لكن الطرفين, الجيش والشعب يدركان في أعماقهما مغبة الانزلاق الي وقيعة تفسد جدلية هذا الحوار أو تدفعه الي الصدام, كما يدركان ضرورة أن تتوحد أهدافهما مهما تكن خلافات الرؤية والرأي, علي ضرورة عبور المرحلة الانتقالية بسلام, وصولا الي دولة مدنية ديمقراطية يتم تداول السلطة داخلها عبر انتخابات حرة نزيهة تعكس ارادة الأمة. وفي ظل الحفاظ علي جدلية الحوار بين الشعب والجيش التي أثمرت لقاء الجمعة قبل الماضية في ميدان التحرير وأكدت ان الثورة تلك للجميع, لايمكن ان تكون حكرا علي أحد, يسهل الوصول الي حلول مبتكرة لكثير من المشاكل المثارة, حلول ضرورة أن يسبق الدستور الانتخابات البرلمانية وضرورة أن تسبق الانتخابات الرئاسية الانتخابات البرلمانية, وضرورة أن تتهيأ فرصة زمنية أوسع للقوي الجديدةالشابة التي شاركت في الثورة كي تعيد تنظيم نفسها, وتوحد جهودها حول خطوط أساس عريضة تصحح صورتها, بدلا من هذا التفتيت الذي أحالها الي جماعات صغيرة متنافسة في مواجهة قوة منظمة تحترف العمل السياسي, لها خبرتها الواسعة بأساليب العمل السري والعلني. لكن مشكلة هؤلاء الشباب أنهم منقسمون علي أنفسهم الي ألف فسيلة وفسيلة, كل فسيلة لها اسم وعنوان وشعار, يختلفون علي فرعيات عديدة بغير حصر لاتمس جوهر الثورة, ولكنها تمزق وحدتهم وتغري بهم الآخرين, متحمسون للغاية ومتطرفون للغاية, لكنهم مثل بندول الساعة يتأرجحون الي الناحية الأخري بأسرع من انتباهة العين ليصبحوا قانطين للغاية وغاضبين للغاية, خاصة عندما يكتشفون أن آخرين سرقوا السجادة من تحت أقدامهم, وهم مشغولون بحواراتهم البيزنطية حول الاعتصام أو الانفضاض, والحوار مع المجلس العسكري أو تأجيله واعدام مبارك شنقا أم رميا بالرصاص, وحبسه في شرم الشيخ أم في مستشفي طرة, بينما يعد الرجل انفاسه الأخيرة, يستنزفون وقتهم في إثبات أنهم الأعلي صوتا والأكثر استحقاقا واجتراء, لايدركون ان الشعب ضاق ذرعا بوقف الحال وانتشار الفوضي وغياب الأمن, ولايقيمون وزنا لأي واقع, لانهم يرون أنه ما من حل أخر صحيح غير ان ينسفوا واقعهم عاطله بباطله! لكننا لانستطيع أن ننكر ان هؤلاء هم الذين صنعوا أعظم ثورات التاريخ الانساني, وما من حل سوي ان نصبر علي شططهم ونساعدهم علي توحيد جهودهم بدلا من هذا التفتيت الذي يمزقهم الي شظايا واستثمار طاقاتهم في عمل نافع يغير واقعهم عوضا عن الجلوس في مقاعد المراقبين يلاحظون ويعترضون دون أن يلزمو أنفسهم النزول من فوق الأسوار لتنظيم جهدهم الطوعي في عمل مفيد ينتشر في طول البلاد وعرضها, يرممون الساحات الشعبية والوحدات الصحية ويزرعون الأشجار علي الجسور, ويردمون مصارف الموت المملوءة بالأوبئة في القري, وينهضون بتوعية الأهل في كل قرية ومدينة, يدعون الي انتخاب الأفضل والأكثر قدرة وعلما, ويخففون من غلواء العصبيات, ويساعدون علي خلق مناخ جديد يكرر علي نطاق واسع ما فعلوه في ميدان التحرير, عندما أدهشوا الأمة والعالم أجمع بإصرارهم علي أن يتركوه نظيفا كما كان! وأظن ان أقصر الطرق لتحقيق ذلك, الاعتراف بهم قوة أصيلة مبدعة كان لها فضل تفجير الثورة قبل أن يلحق بهم الآخرون, والتزام الحكومة والمجلس الأعلي بالوقوف علي مسافات متساوية من جميع قوي الثورة قديمها وجديدها شريطة أن تتوحد جهود هذه الجماعات المتناثرة من شباب الثورة حول أولويات واضحة, تلزم الجميع الحرص علي الخروج بالثورة من متاهتها الراهنة التي تنذر باستمرار الفوضي ووقف الحال, والوقوف صفا واحدا ضد كل صورالفتنة الطائفية وتجريم المحرضين عليها والمشاركين في تظاهراتها الانفرادية أقباطا كانوا أم مسلمين, واعطاء الأولوية القصوي لضمان أمن البلاد وأمان المواطنين, والإيمان الراسخ بأن المصريين وحدهم هم الذين يملكون قدرة تغيير حياتهم الي الأفضل, وأن عودة مصر الي مكانتها المتميزة واستعادتها لدورها الإقليمي والعربي رهن بصلابة ووحدة جبهتها الداخلية. ويزيد من مسئولية شباب مصر إزاء ثورته أن العالم أجمع ينظر الي الثورة المصرية بإعجاب ممزوج بالقلق علي مصيرها, يعقد الآمال علي نجاحها لأنها تمثل طليعة ثورة التغيير التي تجتاح عالمنا العربي, ويتوقف علي نجاحها مصير الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي, ولهذه الأسباب ذاتها يتربص بها أعداء كثيرون لأن إفشال الثورة المصرية يعني إغلاق أبواب العالم العربي في وجه رياح الحرية القادمة التي تهب من ميدان التحرير. ويعني الإبقاء علي القذافي وعلي عبد الله صالح وآخرين, حان موعد رحيلهم كي يلحق عالمنا العربي بركب التقدم الإنساني. المزيد من مقالات مكرم محمد أحمد