طالبة في كلية الطب. كان يحلو لها ان تزهو بمستقبلها الحافل بالامنيات. واعتدت بنفسها الي حد الخيلاء, عندما صار والدها قائدا عسكريا كبيرا, ولم تتصور آنا أن صدمة انكسارها ستكون مروعة وساحقة. ذلك انها لم تتحمل ان يصبح والدها قاتلا وسفاحا. فقد فرض راتكو ميلاديتش حصار الجوع والموت علي أهل سراييفو عاصمة البوسنة في مايو.1992 وقطع عنهم الكهرباء والمياه والمواد الغذائية والطبية. وأطلق عليهم القناصة الصرب. وسقط الآلاف منهم شهداء. وكانت جريرتهم انهم يقرأون فاتحة الكتاب. وأرقت وحشية ميلاديتش قائد جيش الصرب آنا. وكدرت حياتها. ولم تجد مهربا سوي بإزهاق روحها في مارس.1994 ولم تكن قد تجاوزت الثالثة والعشرين من عمرها. الغريب ان انتحار آنا لم يكبح وحشية والدها. فقد أوغل في قتل أهل البوسنة. ولم يكد يمر عام علي ذكري انتحارها, حتي ارتكب أبشع مذبحة جماعية شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. فقد قاد قواته لفرض حصار علي سكان مدينة سربرينتسا. وقتلوا اكثر من ثمانمائة الف رجل وطفل. واغتصبوا العديد من النساء, بينما انسحبت قوات الأممالمتحدة من المدينة. والادهي أن ميلاديتش كان قد أقام وليمة فاخرة لقائد قوات الأممالمتحدة قبل المذبحة الجماعية بيومين. وهذا ما تؤكده الوثائق, ويعترف به الشهود. وهو ما يفضح التواطؤ المشين. {{{ التواطؤ أصبح كلمة السر لمحاولة تفهم أبعاد حرب الابادة العرقية التي شنتها قوات صربيا بقيادة ميلاديتش منذ1992 وحتي 1995 وكان سلو بودان ميلو سوفيتش رئيس صربيا قد أقنع العواصم الأوروبية الكبري بأن الحرب علي البوسنة لن تستمر طويلا, وأن الهدف منها محو إمكان قيام دولة إسلامية في قلب أوروبا. وهكذا كانت الحرب علي البوسنة المعركة الضارية الأولي التي انطلقت من بين صفحات كتاب صراع الحضارات الذي أصدره المفكر الامريكي صامويل هنتنجتون في مستهل التسعينيات. وهو كتاب جد خطير. يحذر فيه من أن الصراع الآتي, بعد اندحار العدو الأحمر, بانهيار الاتحاد السوفيتي ونظامه الشمولي, هو الصراع بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية. واللافت للانتباه أن ميلو سوفيتش كان شيوعيا. فلما انفرط عقد يوجوسلافيا, مزق هويته الشيوعية. وامتطي جواد القومية الجامحة. واستدعي الي الذاكرة هزيمة الصرب أمام القوات العثمانية عام.1389 ولوح بالثأر التاريخي. وقال لن يهزمنا أحد. وكانت تلك الصيحة نقطة الانطلاق لحرب الابادة ضد البوسنة. وبرغم ذلك, لم يبرح مقعده في قصر الرئاسة الا عام.2001 وعندئذ سلمته الحكومة الجديدة لمحكمة العدل في لاهاي.. لمحاكمته كمجرم حرب.. ولفظ أنفاسه الأخيرة في أثناء محاكمته. بينما كان قائد قواته ميلاديتش هاربا من العدالة, وظل كذلك طوال ستة عشر عاما, حتي القي القبض عليه منذ أيام. وتستكمل صربيا, بتسليمه لمحكمة العدل الدولية, أوراق اعتمادها للانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. {{{ ان قتلة الشعوب لا يمكن ان يفلتوا من العقاب. وكذلك الطغاة الذين عاثوا في الأرض فسادا, واعتقلوا الحرية وحدودا اقامة الديمقراطية.. إن مآلهم القصاص وبئس المصير. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي