دعونا نعترف بأن هذا السؤال لو طرح خلال الثلاثة عقود الأخيرة وقبل25 يناير الماضي لكانت الإجابة تحمل كثيرا من الشك, ذلك أن مفهوم الوطن كان قد تمزق بين فردية ضيقة روجت لها نخبة من المثقفين من حواري النظام البائد. وبين شرفاء بعضهم اكتفي بالهروب داخل ذاتية محضة يقول فيها أنا طبيب, أنا صناعي, أنا صاحب شركة مقاولات ناجح أملك حساب طيبا في بنك. بينما دافع البعض الأخر عن وجوده بالتحوصل داخل مفاهيم فكرية, مثل أنا مسلم أو أنا يساري أو أنا ليبرالي. حتي الأقباط فضلوا ان يسجنوا أنفسهم داخل خانة العقيدة الدينية, ليحاربوا الطائفية بالطائفية, لتنخرط البلاد في صراعات دينية تعود بها إلي ما قبل نشوء الدولة الحديثة. وقد نلتمس العذر لاخواننا القبط. ليس لكونهم أقلية, ولكن لأنهم جزء من نسيج واحد في واقع التخلف, أو مشروع التحضر للجماعة المصرية. فلماذا يصبح الأقباط أكثر عصرنة؟ لكن متي ظهرت جذور الإغتراب عن الوطن, أنها تقبع هناك منذ هزيمة يونيو1967 ولعقود طويلة انتشر لدي الجميع الشعور بعدم الانتماء, والاحباط من وطن يستخف بإنسانيتهم, وعندما كف الجميع عن الجمع بين الحلم والوطن في مخيلة أحد, لم يبق سوي الهرب منه بالسفر خارجه أو الفرار فيه, بدلا من العكوف علي بنائه وإعادة أعماره. ومنذ السبعينات جري تهميش الجيل الذي تظاهر واعتقل من أجل تحرير الوطن وإرساء معالم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية, وتم العمل علي إخراجه من ذاكرة التاريخ الوطني, لتتبني تيارات الإسلام السياسي في الثمانينيات منهج التكفير بمفهوم الوطنية المصرية وامتداداتها العربية, مقابل تبني مفهوم الأمة الاسلامية وحكم الإمام وأحيانا عودة الخلافة, ومنذ التسعينات انخرط جمع من المثقفين في خدمة النظام البائد بالترويج لسياسات تنوير موجهة ضد صعود الاسلام السياسي, ولتكون ستارا يخفي وراءه وطنا يباع للشيطان. أما الأقباط فلماذا يشذون عن القاعدة؟ فقد فضلوا التمترس داخل الكنيسة بدلا من التعبير عن أنفسهم بوصفهم مصريين أقحاح تمتد جذورهم في وادي النيل لآلاف من السنين تكفل لهم في هذا الوطن حقوقا لا تمس, وحيث لا يستطيع أحد أن ينزع عن المواطن حقوق ميلاده لأي سبب كان. وبعد خطاب عمر سليمان لإعلان رضوخ رئيس النظام البائد لإرادة الثورة في25 يناير2011, تغير مشهد الاغتراب تماما ليبعث مفهوم الوطنية المصرية من جديد. من الشوارع المحيطة بالميدان مر سيل من شباب, وفتيات سافرات ومحجبات تدور أعمارهم حول العشرين يزحفون جميعا نحو قلب الميدان الذي شهد ثورة الحرية, جماعات وراء جماعات, نهر هادر لا يتوقف, يهتفن علي دقات الطبول المهيبة في توحد مطلق وعزيمة لا تهزم:مصر.. مصر.. مصر.. مصر.. صعدت عبارة مصر من الوحدة الجيوسياسية للجماعة المصرية وفي المقابل ذابت وخفتت كل التباينات والصراعات الأيديولوجية والعقائدية والطائفية والطبقية وهنا يكمن الدرس الذي ندين به إلي شباب ثورة25 يناير الذي أعاد لمصر روحها وفجر فيها طاقة خلاقة مثل قلب الشمس. أن علينا وعلي جميع من يعشق هذا الوطن أن نعي أن قوة مصر- خاصة في المرحلة الراهنة- تنطلق من الأساس الصلد للوحدة السياسية للجماعة المصرية, مصر يجب أن تكون فوق الانتماء العقائدي أو الطائفي, وفي الوقت ذاته يمكن الإتفاق علي حل التباينات وصراعات المصالح التي لا يمكن تجاهلها, عبر صندوق الانتخابات المعبر بشفافية ونزاهة عن ارادة المواطن,لما ينتظرنا في المستقبل من تحديات. فكيف يمكن صياغة دستور دولة عصرية في وطن غالبيته فلاحون ينتمون لثقافة لم تتخط بعد حاجز الحداثة وتتحكم فيه العصبيات, والانتماءات العائلية؟ كيف يمكن بناء نظام سياسي يكون صاحب السيادة الحقيقية فيه هو الشعب؟ وليس الفرد, وكيف يمكن صياغة الوثيقة الدستورية بما يعكس ذلك علي السلطة التشريعة; ففي هذا المفهوم يتشكل أحد أهم القواعد الدستورية التي تفرق بين الدولة الديمقراطية والدولة الاستبدادية. ومن خلال العبث والتلاعب به جري صياغة دستور.1971 كيف يمكن تغيير المفهوم القديم للشرطة والشعب إلي مفهوم حديث وظيفي مؤسس علي احترام حقوق وكرامة المواطن المصري؟ كيف يمكن إدارة عملية بناء اقتصاد حديث, وتنمية بشرية ووضع خطط ومشروعات وخيارات اقتصادية ومالية وزراعية وصناعية مناسبة للنهوض بالاقتصاد المصري. فلا تزال مصر مهددة بمحيط لن يتقبل بسهولة التغيرات الجديدة, أضف إلي ذلك أن المجتمع الإسرائيلي يميل بشكل عنيد إلي اليمين المتطرف, ويبدو أنه ليس لدي الإسرائيليين خطة محددة للسلام. الأمر الذي يشكل عبئا وتحديا كبيرا علي مستقبل مصر. فهل تبدو الصورة قاتمة؟ لا أعتقد ذلك, وعلي العكس أنا متفائل لسببين: الأول من خلال التطلع إلي المعجزات الاقتصادية التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين لدول كانت تعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية أشد قسوة, يمكن لنا أن نتعرف علي طرق نستدل بها علي المستقبل; ماليزيا, كوريا, جنوب أفريقيا, الهند, البرازيل, وبلاد أخري تمثل مكونات ثقافية وموارد مادية وبشرية مختلفة, تمكنت في خلال عقود قليلة من القضاء علي الفقر والتحول إلي عملاق اقتصادي. السبب الثاني والأهم والذي بدونه قد نتعثر هو ما يمكن أن نراه بوضوح من خلال النظر إلي دروس جمهورية التحرير, بركان الثورة, ففيها أبلغ دليل علي القدرة علي تحقيق النجاح. المزيد من مقالات فتحى امبابى