أذهلني الموسيقار الكبير محمد سلطان الذي انتخب العام الماضي رئيسا لجمعية المؤلفين والملحنين أو نقابتهم, عندما أشار إلي أن مجموع ما يدفعه اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري للمؤلفين والملحنين لم يكن يتجاوز400 ألف جنيه سنويا,. أي أقل من1100 جنيه في اليوم لكل المؤلفين والملحنين المصريين الذين تذاع أغنياتهم, بواقع عدة قروش لكل مبدع في اليوم, وأنه بعد مفاوضات تم الاتفاق علي مضاعفة هذا المبلغ الذي يبقي في النهاية هزيلا إلي أبعد الحدود بالنسبة للعدد الكبير من المبدعين والحجم الهائل للحقوق التي يتم سداد هذا المبلغ الهزيل عنها لمصلحة المبدعين أو ورثتهم الذين لو اعتمدوا عليها لماتوا جوعا ولتم تصنيفهم ضمن من يعانون الفقر المدقع أو الشريحة الأشد فقرا وبؤسا في مصر وربما العالم. وإذا كانت حقوق المؤلفين والملحنين في العالم تقيم بكل دقيقة تتم إذاعتها من أعمالهم, فإن استخدام الطريقة نفسها في تقييم حقوق المؤلفين والملحنين في مصر سيظهر مدي الإهانة التي يتعرضون لها جراء التقييم المتدني لحقوقهم, فسعر الدقيقة من أعمال المؤلفين والملحنين في مصر وفقا لتقييم اتحاد الإذاعة والتليفزيون يبلغ عدة قروش ويقل عن0.5% من الحقوق المناظرة التي يحصل عليها المؤلفون والملحنون في بلد مثل فرنسا. وإذا كان متوسط نصيب الفرد الفرنسي من الدخل الحقيقي المحسوب بالدولار وفقا لتعادل القوي الشرائية يبلغ نحو6.3 ضعف نظيره في مصر المحسوب بالطريقة نفسها وفقا لبيانات البنك الدولي في تقريره عن التنمية في العالم عام2010, فإن المنطق يفرض أن تكون حقوق المؤلفين والملحنين في فرنسا, ستة أو سبعة أضعافها في مصر علي أقصي تقدير, ووفقا لهذا المنطق فإن حقوق المؤلفين والملحنين في مصر ينبغي أن تتضاعف عدة مرات وألا تقل عن عشرة ملايين جنيه سنويا, وينبغي أن تزيد في كل عام بصورة تلقائية بنسبة معدل التضخم نفسها علي الأقل حتي تحافظ علي قيمتها الحقيقية أو قدرتها الشرئية دون أي زيادة. وهذا المبلغ المستحق لمؤلفين وملحنين يصيغون وجدان الأمة ويعبرون عن أفراحها وأحزانها وانتصاراتها وصمودها في لحظات الانكسار واحتشادها لتحقيق أهدافها الوطنية والتنموية, ويعبرون عن مشاعر الإنسان في كل حالاته.. هذا المبلغ لا يمثل أي مشكلة حقيقية بالنسبة لميزانية اتحاد الإذاعة والتليفزيون ولا يساوي شيئا إذا قورن بما يتم إنفاقه علي برامج ومسلسلات محل نقد شديد بسبب مستواها, أو ما يتم إنفاقه علي شراء حقوق إذاعة عدة مباريات لكرة القدم, أو ما يحصل عليه موظف واحد من كبار الموظفين بالتليفزيون أو المذيعين في البرامج المنتجة والممولة من شركة راعية. وأعتقد أن الأمر وصل إلي هذا الحد من سوء التقدير للمؤلفين والملحنين نتيجة لجمود المبلغ المقدم لهم لسنوات طويلة, وعدم ارتفاعه سنويا بصورة متناسبة مع الارتفاعات الهائلة التي حدثت في الأسعار وجعلت القدرة الشرائية لهذا المبلغ الجامد هزيلة للغاية ولا تليق بقيمة وقامة وحقوق مبدعي مصر من المؤلفين والملحنين. وبافتراض حسن النيات, وأن تدهور القيمة المالية لحقوق المؤلفين والملحنين من المسئولين عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون ووزير الإعلام لإزالة الغبن والقهر الذي يتعرض له المؤلفون والملحنون ولرفع قيمة حقوقهم إلي عشرة ملايين جنيه في العام علي الأقل مع زيادتها سنويا بنسبة معدل التضخم نفسها. وصحيح أن الأحياء من المؤلفين والملحنين الذين يتعاملون مع شركات الإنتاج العربية والمصرية الخاصة, يحصلون من المغنين وشركات الإنتاج علي مقابل مالي مرتفع لأعمالهم الجديدة أيا كانت قيمتها الفنية والأدبية, لإدراكهم أنهم لن يحصلوا علي شيء يستحق الذكر كمقابل لإذاعة أعمالهم بعد ذلك, وهذا المقابل المالي المرتفع يستتبعه أن تكون الكثير من الأعمال ذات طابع تجاري يصل إلي درجة السوقية والسطحية وترويج القيم السلبية تحت دعوي الاستجابة إلي ما يقال إنه رغبات الجمهور بدلا من ترقية ذوقه بأعمال تتسم بالعمق والحس الإنساني والأخلاقي والوطني. أما الملحنون والمؤلفون الذين قدموا إبداعاتهم في أوقات سابقة علي تحويل الغناء والموسيقي والشعر الغنائي إلي سلعة تجارية, فإن قدرهم هو المعاناة من شظف العيش, رغم أنهم هم الذين قدموا أجمل الإبداعات الموسيقية والشعرية التي تبقي علي القيم الإيجابية في وجدان وروح أمتنا العظيمة وتمثل رصيدها الفني العظيم حتي الآن, وحتي المؤلفون والملحنون الكبار الذين يصرون علي تبني الأصوات المصرية الجميلة والمثقفة التي تريد أن تقدم فنا جميلا وإنسانيا ووطنيا وتتجاهلها شركات الإنتاج الفني المهيمنة علي الساحة المصرية والعربية التي تريد تهميش اللهجة المصرية.. حتي هؤلاء الكبار مثل محمد سلطان وحلمي بكر وعمار الشريعي لا يحصلون علي عشر ما يستحقون بسبب ضعف حقوق الأداء العلني لأعمالهم القديمة والجديدة, بحيث إن إصرارهم علي تقديم الفن الجميل ومساعدة الجيل الجديد من المطربين والمطربات الذين يرغبون في تقديم فن جميل وأصيل, يجعلهم كالقابضين علي الجمر. والحقيقة أن الغبن الذي يتعرض له المؤلفون والملحنون هو جزء من سياق عام يتعرض فيه المبدعون عموما للإفقار والتهميش, فالباحثون في العلوم الطبيعية والإنسانية إذا لم تمول أعمالهم البحثية من جهات أجنبية أو عربية فإنهم يتعرضون لمعاناة معيشية وبؤس حقيقيين لأن أجورهم بائسة إلي حد كبير لا تتناسب مع قيمة العلم والعلماء. ويكفي أن نعلم أن العالم قد أنفق نحو2.3% من الناتج العالمي علي البحث والتطوير العلميين في الفترة من عام2000 حتي عام2006, بينما بلغ الإنفاق في مصر في الفترة نفسها نحو0.19%, أي نحو8% من المعدل العالمي. ولا يمكن لأمتنا العظيمة أن تستعيد زخم النهوض والتقدم دون إعلاء شأن العلم والعلماء والفن والأدب والتقدير المنصف والعادل للمبدعين وضمنهم المؤلفون والملحنون الذين يسهمون في صياغة وجدان الأمة وذوقها الإنساني وحسها الوطني وروحها النهضوية.