ن تتمكن مظاهر الثورة المضادة, ولا وحش الفتنة القادم من وراء الحدود ليحرق الوطن باسم الدين, ولا صعوبة التواصل مع الأصدقاء, من استنزاف فيض البهجة التي زرعتها في القلب أول ثورة عن الحرية في التاريخ المصري, فطوال سنوات مضت وبعد تجارب سياسية واجتماعية. لمريرة كان مفهوم الحرية لدي الشعب المصري يقتصر علي قضية الاستقلال, وفي ندوة بالمجلس الأعلي للثقافة عقدت قبل الثورة بأيام قليلة شاركني فيها الروائي اللامع الشاب محمود عثمان, صاحب الرواية التي تنبأت بالثورة, قلت إن المرء يعيش في كابوس من الظلام أصبح يتعذر فيه معرفة الخيط الرفيع الفاصل بين الكابوس والواقع. في ذلك الوقت تقريبا استضفت من قريتي سدود الواقعة في محافظة المنوفية أصدقاء العمر, كانوا خليطا من فلاحين ومدرسين ومهندسين وضباط وتجار, وفي سهرة دار فيها نقاش أنتهي مع أشعة الصباح الأولي حول الأوضاع القائمة, اتفقنا أن النظام البائد قد وضع الوطن في طريق مسدود, وأنه فقد الحنكة التي كانت تصنع له ورقة توت تخفي عورته, وتبقي علي شرعية زائفة سانده فيها بحماس فاجر في إعلانه, وضيع في دوافعه; أحزاب معارضة مقنعة تحت مسمي يسار ويمين, ونخبة من كبار مثقفين وأدباء وشعراء وفنانين غارقين في الفساد السياسي. ورغم أنني كنت مقتنعا وكثيرا ما قلت أن النظام شديد الضعف متهالك, لا يحافظ علي بقائه سوي من فقدوا ضميرهم الوطني وباعوا مصر وفقراءها للشيطان لقاء مصالحهم ومنافعهم الخاصة, وكانت النتيجة التي وصلنا إليها وأكثر الضيوف من الفلاحين من اختلط عرق عمرهم بطين الوادي العظيم; أن النظام باق لأنه يسيطر أمنيا علي الأدوات المؤهلة لتغييره, مستخدما قبضة هي خليط من دجل سياسي وقانوني وقليل من ذهب المعز وفضته, وأن جهاز أمن الدولة وضع أعوانه إما علي رأسها أو في مفاصلها, وجعل منهم ألغاما قادرة علي الانفجار في اللحظة المناسبة إذا ما حاول الشرفاء التخلص من الرموز المناوئة للشعب والتابعة للنظام البائد, فتمكن بذلك من إفساد الحياة. وعندما انتهت سهرة الأصدقاء كان لسان حال البعض يري بعملية مفرطة أنه لا وجود في الأفق القريب أي ملامح تشير لتغير الأوضاع الكئيبة القائمة, وأن الحزب الوطني ورموزه باقون بقاء أبديا, وأن علينا أن نتحلي بواقعية عملية تفرض علينا الاعتراف بفلسفة العصر, القائمة علي احتقار القيم والمبادئ, وتعظيم الفردية والنفعية المنحطة التي تدمر السفن وتأخذ بالمهزوم والمنتصر معا إلي قاع المحيطات. والآن بعد أن أطاحت الثورة بالنظام البائد الذي كان قيحا كله, لن يستطيع أحد أن يأخذ من القلب مشاعر البهجة, في ميدان التحرير كنا نجتمع ونقف في حلقات نضحك ضحكة الحرية, قوية مجلجلة, كانت تخرج من صدورنا نقية ملتهبة كألسنة النار, كيف تحقق الحلم فجأة, كيف ذهب الكابوس إلي غير رجعة, ولسان حالنا يتساءل: ما الذي حول المصريين من رجال وشباب وأطفال ونساء هدهم الفقر والاكتئاب فجأة إلي هذا القدر من الوسامة والجمال. يرتفع في القلب خاطر يقول إنها الروح العظيمة تطل من العيون والوجوه والأفواه بمعالم الكرامة والحرية. لهذا ولأسباب أخري عديدة عرفتها في ميدان التحرير أقول جازما لكل من يحدثني عن سرقة الثورة, أو يتأسي لأن اليسار المصري يعاني من التهميش وسط أحداث شارك فيها منذ اللحظة الأولي, أو أن الإخوان المسلمين سيخرجون عن قواعد اللعبة قريبا ويعودون بنا إلي عالم الاستبداد باسم الدولة الدينية أو أشباهها. لحظتها اقول هذه واحدة من أعظم لحظات مصر التاريخية, فكل ما سبق كان نضالا من أجل الحياة, نضالا من أجل العيش, نضالا من أجل البقاء.. وجميع الكائنات تفعل.. وطوال ألفي عام ويزيد ناضل الفلاحون المصريون الإمبراطوريات الغازية.. فقط من أجل البقاء.. ولكن في25 يناير2011 كان مطلب الشعب العظيم الحرية.. حرية الفرد وكرامته.. تلك أنبل القيم.. فحرية الفرد قيمة إنسانية لا تخص أحد سوي البشر بامتياز, إنها الوحيدة القادرة علي الصراع في مواجهة قانون الضرورة, أما العدالة التي تعقبها أشد نبلا من عدالة القطعان التي تسبقها... فدعونا لا ننسي أن للشعب عظمته.. وأن كل المظاهر الجارية من ثورة مضادة وغباء بعض السلفيين وزعيق كثريين بليبرالية عارية, واحتلال الحرس القديم صدارة الإعلام المرئي, وبجاحة وفجر مثقفي النظام القديم الذين لا يملون من نقدهم للنظام الذين يعملوا في خدمته ودافعوا عنه وأكلوا من خيره, وملأوا جيوبهم من فضته, ولا يتورعون عن املاء نصائح وحكايات لا تخجل من سرقة الثورة, ولا من تقلبات تصريحات زعماء الإخوان المسلمين عن دولة دينية ترتدي مسوح دولة مدنية, وكأنهم لم يتعلموا الدرس بعد, لم يتعلموا أن الأفكار النبيلة دينية أو علمانية ليس لها علاقة بالأيديولوجيات المتشددة حتي ولو أعتقد من تبناها في طهارتها, ذلك أنها تجتمع معا في إنتاج كارثة الاستبداد والفساد, مهما كانت مصادرها; كل الأيديولوجيات التي لا تعترف بالآخر مآلها نهاية مأساوية. وأن المواطنة وحق الجميع في الوطن بقضه وقضيضه هي سلاح التقدم في هذا العصر. كله قد صار في الماضي, وأن المستقبل هو لدولة المستقبل المدنية.. ولهذا لن يأخذ أحد مني البهجة.. رجاء ومن فضلكم لا تأخذوا منا مشاعر البهجة. المزيد من مقالات فتحى امبابى