عندما نزل الوحي علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وبدأ رسالته بدعوة أفراد قبيلته إلي عبادة الله الواحد الأحد, كان أول ما فعله نهيهم عن عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يصنعونها ويعبدونها! ولذلك حرم الإسلام في بداية ظهوره التماثيل والصور خوفا من أن يتذكر الناس ماكانوا يعبدونه, أما اليوم فليس هناك بعد معرفة الله من يقف أمام تمثال أو صورة ويعبدها, فقد شفي الناس من آثار هذا الزمن البعيد, بل علي العكس أصبحت صور الذين رحلوا تذكر الناس بالنهاية الحتمية لكل البشر وأنه لابقاء لإنسان مهما طال عمره وإنما البقاء لله الذي لايموت ولايفني. وهي العبارة التي نعزي بها أقرباء أي متوفي لنذكرهم أننا جميعا إلي نفس النهاية... ومع ذلك كان ضروريا في بداية ظهور الإسلام منع التماثيل وتحريمها كي لا تحن النفوس إلي أيام عبادتهم لها! ومثل هذا حدث في أول أيام ثورة يوليو 1952 التي كان أول عمل لها إقصاء الملك فاروق عن عرشه ومغادرته البلاد, وبعد ذلك تم انهاء الملكية في مصر وإعلان مصر جمهورية فقد أزالت الثورة صور فاروق ومنعت ظهورها واعتبرت حيازتها ونشرها وترويجها جريمة يعاقب عليها. حتي الأفلام السينمائية التي كانت تظهر فيها صورة فاروق معلقة كان يتم التعليم عليها باللون الأسود, وكانت من حسن الحظ محدودة العدد بالمقارنة إلي عدد الأفلام التي أصبحت تظهر فيها صور الرؤساء في محاولة من مخرجيها لتحديد زمن أحداث الفيلم... وربما من أشهر هذه صور الملك فاروق المشطوبة صورته في فيلم قلبي دليلي الذي كان الفنان أنور وجدي يطمع إلي إرضائه من خلال الفيلم لكي يمنحه رتبة البكوية التي حصل عليها الفنان يوسف وهبي عندما قدم فيلمه غرام وانتقام وضمنه استعراضا غنائيا لأسرة محمد علي بصوت أسمهان, تم شطبه كله ويضم محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وفاروق, ولم ييأس أنور وجدي, ففي فيلمغزل البنات عرض أيضا صورة فاروق تتوسط القاعة التي غني فيها محمد عبدالوهاب في الفيلم أغنيةحبيب الروح وتم كشط الصورة ولكن أخيرا تم العدول عن هذه العادة وظهور صور فاروق في الأفلام التي ظهرت فيها بدون كشط! التخلص من آثار فاروق ولم تكن الصور وحدها التي تعقبتها الثورة بل كان هناك من قاد شعار التخلص من آثار وممتلكات فاروق وأسرته باعتبار ذلك من بقايا العهد الأسود الذي خلصت الثورة مصر والمصريين منه... وفي أكثر من مزاد بيعت كميات كبيرة من متعلقات فاروق التي خاف المصريون شراءها فذهبت إلي الأجانب الذين دفعوا فيها أرخص الأسعار ونقلوها إلي مختلف دول العالم,ولم نتبين إلا مستقبلا أن هذه المتعلقات الملكية ليست خاصة بملك أو عصر وإنما هي جزء من تاريخ هذا الشعب في أزهي عصور الفن يجب صيانتها وعرضها في المتاحف وهو مافعلته الثورات الآخري في روسيا وفي فرنسا وفي أسبانيا وغيرها التي حافظت علي كل قطعة من متعلقات نظم الحكم التي ثارت عليها وأصبحت هذه التحف تمثل المتاحف التي درت الملايين علي البلاد, بالاضافة إلي ما تمثله من حقب تاريخيه مختلفة..! ولكن كان الأسوأ مطاردة فاروق وأبيه فؤاد ومعظم أفراد أسرة محمد علي في كتب التاريخ مما أدي إلي ظهور أجيال لاتعرف عن فاروق سوي أنه كان ملكا فاسدا يجري وراء شهواته ولايفيق من الخمر رغم أنه كما ثبت لم يكن يشربها! مات من التخمة! وقد مات فاروق في المنفي في ايطاليا في سن صغيرة(54 سنة) وذلك في مارس عام 1956, أثناء تناوله العشاء في مطعم تعود أن يأكل فيه في العاصمة الإيطالية روما, وقد ثارت الشائعات حول الطريقة التي مات بها واتهمت ثورة يوليو أنه تم دس السم له في الطعام عن طريق ابراهيم بغدادي ضابط المخابرات الذي كما اعترف هو كان مخصصا لمراقبة فاروق لكنه نفي أن يكون قد قتله.. وقد روي ليمرتضي المراغي آخر وزير داخلية لمصر قبل قيام الثورة أنه ذهب مرارا إلي المطعم الذي مات فيه فاروق وصادق صاحبه الذي روي له أن فاروق أكل ليلتها كمية من الطعام لو أكلها- علي حد تعبيره- فيل لسقط ميتا وقد مات فاروق عمليا مرتين, مرة يوم خرج مطرودا من مصر يوم 26 يوليو 1952, ومرة ثانية يوم مات فعلا في إيطاليا في مارس 1956, وقد وافق جمال عبدالناصر علي نقل جثمانه إلي مصر ودفنه في مقبرة صغيرة, لكن السادات بعد ذلك أمر بنقل الجثمان ليدفن في مقابر الأسرة الملكية مع أبيه فؤاد, وهكذا أعيد الاعتبار إلي فاروق الجثمان بعد الوفاة! أما الذي أعاد الاعتبار إلي فاروق وعصره وبصورة قوية فقد كان المسلسل الذي كتبته الدكتورة لميس جابر طبيبة الأطفال وزوجة الفنان يحيي الفخراني الذي كان مفروضا أن يقوم بدور فاروق في المسلسل, لكن التليفزيون المصري عندما عرضت عليه لميس 20 حلقة من المسلسل ركنها عدة سنوات كبر خلالها يحيي الفخراني سنا وأصبح غير لائق علي دور فاروق الذي ذهب إلي الممثل السوريتيم الحسن وأداه علي أروع ما يمكن. ولم تؤلف لميس جابر المسلسل من خيالها بل جمعت أحداثه ومشاهده من كتب صدرت وروي أصحابها شهادتهم ومن ذلك كتاب الأستاذ محمد التابعي عن( أحمد حسنين) وعلاقته بالملكة نازلي وقد صورها المسلسل كما رواها التابعي الذي كانت كتاباته تتميز بالرؤية الدرامية خصوصا أنه بدأ ناقدا سينمائيا. كذلك هناك كتاب الدكتور محمد حسين هيكل الذي ضم مذكراته في السياسة وكان بصفته ممثلا لحزب الأحرار الدستوريين, أحد شهود اجتماعات قصر عابدين مع باقي زعماء الأحزاب السياسية في يوم أزمة 4 فبراير 1942 التي حاصرت فيها الدبابات البريطانية قصر عابدين لإرغام الملك فاروق علي إسناد الوزارة إلي مصطفي النحاس, وقد روي ذلك كاملا في مذكراته التي كانت أهم مصادر واقعة يوم4 فبراير. وقد قلب مسلسل الدكتورة لميس موازين النظرة السائدة إلي عصر فاروق الذي اكتشف ملايين المصريين أنه لم يكن كله حالك السواد كما تعلموا, وأنه مثل كل عصر كان به الجانب الإيجابي والآخر السلبي. ولم يخالف عصر فاروق القاعدة المعروفة دائما في الحكم, وهي أن يبدأ الحاكم محبوبا وينتهي فاسدا مكروها, فيتم الحكم عليه بحسب الخواتيم, وتجري محاولة شطبه من التاريخ. لكن مع الأيام تسترد الذاكرة رؤيتها الغائبة وتري الأسود والأبيض في حكمه. ge.gro.marha@tnomhalas