يصير خير... كانت تلك آخر كلمتين سمعتها من بن لادن علي الهاتف, بعد حديث استغرق ما يقرب عشرة دقائق علي الهاتف في أحد أيام سبتمبر عام1997 بالعاصمة الأفغانية كابول. في تلك الأيام, كنت موفدا من صحيفة الأهرام إلي أفغانستان لتغطية الحرب المستعرة في ذلك الوقت بين طالبان التي كانت تسيطر علي70% من البلاد وبين التحالف الشمالي المكون من غالبية الأعراق المكونة للأمة الأفغانية فيما عدا الأغلبية من عرق البشتون. وقد يعجب البعض من أن المكالمة التي جرت مع بن لادن والتي أشرت لها في مقال منذ سنوات علي صفحات هذه الجريدة لم أسع من خلالها طلب إجراء حوار صحفي مع الرجل الذي تحول في ذلك الوقت من قبل حادث11 سبتمبر إلي صانع أخبار الصفحات الأولي للصحف والمجلات في العالم, وإنما كانت المكالمة لطلب الأمان للأسف من بعض العناصر من المصريين الذين اتخذوا من أفغانستان في ذلك الوقت موئلا لهم هربا من ملاحقات الأجهزة الأمنية وعاصما لأفكارهم التي تميز الكثير منها بالتطرف. كان قد مر علي وجودي في أفغانستان10 أيام, وذلك قبل أن أبلغ من وزارة الدفاع بأن قوات طالبان أوقعت أربعة عناصر من الحرس الثوري الإيراني خلال قتالهم في صفوف التحالف الشمالي, وبأنه يمكنني أن ألتقيهم أثناء عملية استجوابهم بالموقع الذين أسروا فيه بمنطقة جبل السراج الواقعة علي بعد45 كلم شمال العاصمة كابول. قبل الوصول للمنطقة التي كانت أحد خطوط القتال المتقدمة ب10 كلم كان علي قائد السيارة رباعية الدفع أن يتخذ طريقا ترابيا يشق حقولا امتلأت براجمات الصواريخ التي كان صوت خروجها يصم الآذان. توقف السائق لكي يعرض خدماته علي سيارة أخري علي جانب الطريق وقد التف حولها عدد من الأفغان الذين ألقيت عليهم التحية فلم يردوها. بعد أن انطلقنا سألني السائق: لماذا لم يرد إخوانك المصريون التحية عليك؟! قلت للرجل مستنكرا: هؤلاء أفغان وليسوا مصريين. رد الرجل بقوله إنهم مصريون من جماعة الشيخ( يقصد بن لادن) وأنه يعرف بعضهم وهم يعيشون بأفغانستان منذ سنوات ويتحدثون لغة الداري( الفارسية باللهجة الأفغانية) واللغة البشتونية, كما أنهم يرتدون الزي الأفغاني طول الوقت. انزعجت من كلام الرجل بالرغم من معرفتي طوال الوقت أن مثل هذه اللحظة واردة الحدوث, ولكنني كنت أتعمد عدم الوقوف عندها كثيرا حتي لا أتراجع عن المهمة, وخاصة مع إدراكي أنه لم يكن يوجد أي مصري في أفغانستان في تلك الفترة سواي وهؤلاء الفارين من الأجهزة الأمنية, حيث كانت السفارة المصرية قد أغلقت أبوابها قبل ذلك بفترة. وبعد أن وصلت إلي مقصدي وحضرت استجواب عناصر الحرس الثوري الإيراني, وفي طريق العودة لاحظت وجود سيارة تشبه تلك التي التقيناها ونحن في طريق الذهاب. وقبل أن تصل سيارتنا إلي السيارة, فوجئت بسائقي وقد دفع بمؤخر رأسي إلي الأمام بقوة قبل أن أشعر بزجاج نافذة السيارة يتناثر فوقي, وذلك قبل أن يطلق السائق العنان للسيارة التي تعرضت إلي زخات من طلقات الرصاص كلما قطعنا عدة أمتار علي الطريق, وهي الطلقات التي لم أسمع صوتها بفعل صوت خروج الصواريخ من راجماتها علي جانبي الطريق. بعد أن نجوت والسائق بأعجوبة, كان علي أن أواجه تلك اللحظة التي طالما خفتها ولم أتوقف عندها كثيرا, وهي أن الأخوة المصريين صدموا بوجودي وظنوا أنني جئت لكي أتحري أخبارهم, وهو ما لم يكن صحيحا بالمرة. لم يكن أمامي سوي أن أتوجه إلي مكتب القائم بعمل رئيس وزراء الطالبان في ذلك الوقت الملا محمد حسن خاكسار- حاليا هو النائب الأول للملا عمر الزعيم الروحي لطالبان- وهو الرجل الذي نشأت ألفة بيني وبينه بعد أن أجريت معه لقاء صحفيا. ألقيت علي مسامع الرجل ما حدث, وذلك قبل أن يلتقط الهاتف ليتحدث قليلا قبل أن يعطيني السماعة لكي أجد أسامة بن لادن علي الجانب الآخر. بدأت حديثي بالسلام قبل أن أشرح له ما حدث, ثم طبيعة مهمتي, طالبا منه أن ينقل ذلك للمصريين وأن يبلغهم أنه ليس من البطولة أن يقتلوا شخصا مسالما وأعزل وخاصة أنه لايقصد بهم ضررا. خلال حديثي لم أكن أسمع من الرجل سوي همهمات يستحثني بها علي مواصلة الحديث, ولم يقاطعني سوي للاستفسار عن الموقع الحادث بالتحديد. وبعد ان انتهيت سألته: هل يمكنني أن آخذ الأمان منك, فرد بأننا جميعا في أمان الله. وبالرغم من أن إجابة الرجل كانت كافية, إلا أن القلق الذي كان ينهشني دفعني لطرح السؤال مرة أخري ليكتفي بالقول: يصير خير بإذن الله. تحولت للقائم بعمل رئيس الوزراء وسألته: هل أستطيع أن أعتمد علي كلمة الرجل؟ فقال لي: بالطبع, ولكن لماذا لم تسع لحوار معه؟ قلت للملا خاكسار: أنا لا أريد أن يساء تفسير أي تحركات لي هنا وخاصة من المصريين. وبالرغم من أنني كنت مستنفرا طوال الوقت, إلا أن محاولة الاعتداء علي لم تتكرر مطلقا, فقد كان الرجل مسيطرا بشكل كامل علي العرب في أفغانستان. وبعيدا عن تقييم أفكار وأفعال بن لادن التي لا أتفق ولا أوافق علي الغالبية العظمي منها, وخاصة من حيث اللجوء للعنف ضد مدنيين عزل أيا كانوا إلا إن الواجب يدفعني إلي أن أقول بأن الرجل وعد, فأوفي. وتبقي عملية اغتيال بن لادن التي قامت بها قوة من الوحدات الخاصة الأمريكية أمس يكتنفها الغموض, كما أن ملابساتها والمكان الذي عثر فيه علي بن لادن يطرح العديد من الأسئلة من عينة: لماذا انتقل بن لادن من مكمنه في منطقة القبائل الفاصلة بين أفغانستانوباكستان والتابعة اسما فقط للأخيرة إلي الداخل الباكستاني, وذلك بالرغم من الخطورة الشديدة علي أمنه هناك؟! ولماذا لم يستطع الأمريكيون اصطياد الرجل علي مدي سنوات وهو داخل أفغانستان؟! خلال مهمة صحفية قمت بها في شهر نوفمبر عام2010 إلي أفغانستان ضمن وفد من مركز الدراسات المستقبلية برئاسة اللواء أحمد فخر واللواء عادل سليمان, طرحت سؤالا علي عدد من أصدقائي الأفغان القدامي حول احتمالات إيقاع أحد الأفغان من المحيطين ببن لادن, وخاصة أن الإغراءات المالية كبيرة. انبري أحد هؤلاء الأصدقاء للرد, حيث قص علي مشهدا تاريخيا يعتز به كل أفغاني عن السلطان محمود الغزنوي, ذلك القائد التركي الذي غزا أفغانستان وحكمها في عام997 م. فقد خرج الغزنوي لرحلة صيد طارد خلالها غزالا في التلال المحيطة بعاصمته غزني حتي نجح في الإطباق علي الصيد الضعيف الذي لجأ لخيمة خرج صاحبها وهو راعي غنم أفغاني بسيط الذي ليجد فارسا يطالبه بتسليم الغزال. وقف الرجل بثبات أمام الفارس ليقول له: لا أستطيع, فقد استجار بي. وقف محمود الغزنوي مندهشا من منطق الرجل, وذلك قبل أن يكشف له عن كونه حاكم هذه البلاد, فجاء رد الرجل مفحما, حيث قال: حتي وأنت من أنت, فإن ذلك لا يبرر أن أقوم برد جيرة هذا الغزال بمجرد دخوله خيمتي, فهذا الحيوان الأعجم لايستطيع النطق حتي يطلب أن أجيره, ودخوله خيمتي ترجمة لهذا الطلب, وإذا لم تحترم ذلك وأنت حاكم البلاد, فأنت إذن لا تستحق تلك المكانة وقرر الغزنوي, وقد تملكته الدهشة- أن يقدم للأفغاني عرضا من الصعب أن يرفضه, حيث عرض عليه خاتما ثمينا كان يزين أحد أصابعه مقابل تسليمه الغزال, فما كان من الرجل إلا أن رد علي عرضه السخي بعرض آخر, حيث عرض عليه كبشا من قطيعه قائلا: وماذا لو عرضت أنا عليك أن تأخذ هذا الكبش عوضا عن الغزال لكي تمضي في سبيلك. القصة التي أسمعني إياها صديقي الأفغاني كانت الرد علي سؤالي حول احتمالات أن يوقع أحد المحيطين ببن لادن من الأفغان تحت وطأة الإغراء المادي, وفي القصة أبلغ رد. ولعل ذلك ما يثير السؤال عن الأسباب التي دفعت بن لادن للجوء إلي باكستان وتحديدا في بلدة أبوت أباد الواقعة علي بعد64 كلم فقط من العاصمة إسلام أباد وهو يدرك أن جهاز المخابرات العسكرية الباكستاني العتيد يلاحقه, ناهيك عن الأمريكان؟! وبناء علي الشواهد, وعلي ما توافر لنا من مهام متعددة وطويلة في أفغانستان وتلك المنطقة, نعتقد بأن العملية تبدو أكثر تعقيدا مما رويت من جانب الأمريكيين, ومن أنها استغرقت وقتا طويلا تم خلاله استدراج بن لادن من منطقة القبائل إلي الداخل الباكستاني, بعيدا عن حلفائه الأفغان, وأن الرجل لم ينتقل هناك لمزيد من التأمين, وبالطبع ليس للاستمتاع بتلك المنطقة البديعة طبيعة ومناخا. أما السؤال الذي يطرحه الكثيرون: هل ستؤدي هذه الضربة القوية إلي إنهاء القاعدة, ومن ثم لمزيد من تأمين الوجود الأمريكي في أفغانستان؟ للإجابة علي الشق الأول من السؤال نقول بأن الضربة قوية, ولا شك في أنها ستؤثر معنويا علي القاعدة, إلا إننا لا نعتقد أنها لن تؤثر تنظيميا بعد أن تحولت القاعدة إلي كيانات مبعثرة ليس لها نظام قيادة وتحكم موحد. أما الشق الثاني من السؤال, فإن من يطرحونه لا يدركون الفارق بين عقيدة طالبان وعقيدة القاعدة; فالأخيرة كانت ومازالت تتبني عالمية الجهاد لإنشاء دولة الخلافة الإسلامية عابرة الحدود, في حين إن طالبان تدعو لمحلية الجهاد داخل أفغانستان لإقامة إمارة إسلامية داخل الحدود. ومن ثم, فإن الفارق بين العقيدتين هو الذي يجعل وجود الولاياتالمتحدةبأفغانستان هو الأخطر خارجيا لها, وذلك بغض النظر عن تصفية بن لادن.