تعددت ملامح الاهتمام الرسمي والشعبي والاعلامي الذي تحظي به العلاقات المصرية مع السودان بعد انتصار ثورة الشعب في25 يناير, مع شيوع أجواء توحي بأن هناك صفحة جديدة زاهية سوف تفتح بين قطري وادي النيل, حيث إستقبلت مصر أول زيارة خارجية بعد الثورة من الرئيس السوداني عمر البشير, كما اتجهت أول زيارة لعصام شرف رئيس الوزراء الإنتقالي إلي السودان أيضا حيث قوبل شعبيا بحفاوة تعبر عن ابتهاج الشعب السوداني بالثورة المصرية, الأمر الذي عبر عن سلامة الوجدان الشعبي في شمال الوادي وجنوبه والرغبة العميقة في التعاون والوحدة كأساس للتقدم في مواجهة الأخطار والتحديات المشتركة. ولا يخفي أيضا أن تصاعد أزمة المياه في حوض النيل بعد انضمام بوروندي إلي اتفاقية عنتيبي, قد ساهم في ازدياد وتائر الاهتمام بالسودان شماله وجنوبه كجزء من الإهتمام بهذه القضية بالغة الحيوية بالنسبة لمصر. غير أن المتأمل في الوقائع والمراحل التي مرت بها العلاقات المصرية السودانية من دورات تتأرجح بين الهبوط والصعود, لابد أن يستنتج خلاصة أساسية مؤداها أن هذه العلاقات لا يمكنها أن تستقيم أوتتطور ما لم تتحول إلي علاقات بين دولتين, وليس بين نظامين أحدهما في القاهرة والثاني في الخرطوم. أي أن تبني هذه العلاقات علي الثوابت التي لا تتغير, بحيث تمثل توجها ثابتا يبني علي المصالح ويحظي بالوفاق بين القوي السياسية ويلقي القبول الواسع بين أطياف الشعب. من الواضح أنه لاتوجد مشكلة في هذا الاطار علي الجانب المصري, فمصر حكومة وشعبا تدرك أهمية السودان بالنسبة لها. غير أن الأمر ليس كذلك علي الناحية الأخري حيث عاني السودان- لأسباب عديدة- من عدم إكتمال مشروع دولته الوطنية, ومع تفاقم أزمات الهوية والشرعية والإندماج الوطني وعدم الاستقرار السياسي, بسبب المشروع الأيدلوجي لنظام الإنقاذ, بدأ مشروع الدولة السودانية في التراجع لحساب الانتماءات الأولية العرقية والجهوبة والثقافية, الأمر الذي أدي في النهاية إلي تقسيم السودان إلي دولتين شمالية وجنوبية, ومازال ينذر بمزيد من التقسيم والتشرذم. في هذا السياق ظلت العلاقات السودانية مع مصر لا تحظي بالحد الادني من الوفاق الداخلي في السودان, حيث كانت العلاقات متوترة مع حكومة عبدالله خليل في المراحل الاولي من إستقلال السودان, لكي تتحسن في عهد الجنرال عبود, ثم تعود للفتور في الديمقراطية الثانية, وتتحسن في عهد نميري لتعود للفتور في الديمقراطية الثالثة, ثم تشهد أسوأ مراحلها في عقد التسعينيات من القرن الماضي, مع انقلاب الجبهة القومية الاسلامية في عام.1989 ثم عادت الأمور للتحسن في السنوات العشر الاخيرة بدءا من عام2000 الذي شهد إنشقاق نظام الإنقاذ وخروج الدكتور الترابي وحلفائه لصالح تحالف البشير وعلي عثمان طه. والشاهد ان الجناح الذي بقي في الحكم بعد اخراج الترابي, وفي إطار سعيه لاعادة التكيف والتموضع الاقليمي والدولي, قام بتعليق كل أخطاء وخطايا وممارسات عقد التسعينيات علي شماعة الترابي, وفي هذا الاطار حرصت المجموعة الحاكمة علي تحسين العلاقات مع مصر من أجل تحسين فرص بقاءها في الحكم. وقد إستجابت القاهرة آنذاك لليد الممدوة تجاهها, إنطلاقا من تقديرات تتعلق بالمصالح الاستراتيجية للدولة المصرية. وتم تجاوز ملف التسعينيات الامني والسياسي, من أجل صفحة جديدة شهدت تطور العلاقات عبر توقيع مجموعة من اتفاقيات التعاون بلغت19 اتفاقا, كما تم توقيع اتفاق الحريات الاربع عام2004, وتطورت العلاقات مع الوقت وأصبح هناك عشرات وربما مئات الآلاف من العمالة المصرية في السودان وكذلك عدة مئات من الشركات المصرية العاملة في مجالات مختلفة. وفي السياق نفسه ساندت القاهرة السودان في أزمة المحكمة الجنائية الدولية واستقبلت البشير في أول كسر حقيقي لضغوط المحكمة, كما ألغت القمة الفرنسية الافريقية التي كان مقررا لها الانعقاد في شرم الشيخ بسباب إصرار ساركوزي علي عدم مشاركة البشير بسبب إتهامات الجنائيه له, حيث جري نقل المؤتمر إلي مدينة نيس الفرنسية, وغير ذلك من المواقف في أثناء مفاوضات نيفاشا وغيرها. في أعقاب إنتصار ثورة يناير تنكرت تصريحات البشير وعدد من قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان, للمرحلة السابقة بكاملها عبر القول أن نظام الرئيس السابق مبارك كان شوكة في خاصرة السودان, وان كل ما قام به كان تنفيذا لسياسة أمريكية إسرائيلية, وعادوا يلوكون قصة قديمة سبق ترويجها في منتصف التسعينيات إبان محاولة الاغتيال في أديس أبابا, بأن الرئيس السابق رفض زراعة القمح في السودان خوفا من أمريكا. والمثير للدهشة أن ذلك يتم عبر تجاوز والقفز علي حقائق ووقائع كثيرة مازالت ماثلة في العلاقات بين البلدين, وهذا أمر يدعو أيضا للاستغراب, فالأجدي إذا صدقت النوايا- أن نقول بأنه كان لدينا تقدم ولكن كانت هناك نواقص يجب ان نسعي معا لاستكمالها وتطويرها وليس إنكار كل ما سبق وإهالة التراب عليه. والشاهد أن هذا السلوك يدل بوضوح كامل علي ان قادة نظام الإنقاذ السوداني حين قاموا بتعديل سياساتهم تجاه مصر, بدءا من عام2000 لم يكونوا مدفوعين بادراك او قناعة بأهمية العلاقات مع مصر, وإنما كانوا يسعون لتوسيع مجال حركتهم الاقليمية من أجل البقاء لاطول فترة في الحكم, ومن ثم يبدأون الآن دورة جديدة في عهد ما بعد ثورة يناير, يطالبون فيها باعادة بناء العلاقات من الصفر مرة اخري, بناء علي قراءة مغلوطة للواقع المصري بعد ثورة يناير, تستند إلي أن التيار الإسلامي في مصر بفصائلة المتعددة سوف يمثل مكونا رئيسيا في النظام السياسي القادم, وأن هذا سوف يوفر لهم مساندة مصرية غير مسبوقة تجاه خصوماتهم الداخلية والخارجية, بإعتبار ان نظام الانقاذ ما زال يعتبر نفسه نظاما إسلاميا. وجه الغلط في هذه القراءة الانقاذية, أنها تتجاهل أن الثورة المصرية قامت من أجل المطالبة بالحرية والكرامة وإحترام حقوق الانسان, وأن هذه القيم تمثل إطارا جامعا وعنوانا أساسيا للمرحلة القادمة, ومن ثم فإن التيار الإسلامي بأي من فصائله, لن يستطيع أن يقدم لنظام الانقاذ الاسناد الذي يتوقعه, لأنهم بذلك سوف يلحقون ضررا بأنفسهم في ظل التنافس والصراع السياسي والانتخابي والحراك الاعلامي الهائل والذي سوف يتزايد بمرور الوقت. ومن المؤشرات الدالة في هذا السياق, رفض ائتلاف شباب الثورة وكل من الدكتور البرادعي ورفعت السعيد لقاء البشير في زيارته لمصر بعد الثورة بسبب اتهامات الجنائية له, وهناك أيضا التوجه الذي أعلنته وزارة الخارجية المصرية بالتصديق علي الاتفاقية المنشأة للمحكمة الجنائية الدولية, بما يعني أن الأبواب المصرية ستكون موصدة في وجه البشير ونظامه. أما عن سلوك نظام الإنقاذ نفسه فهناك بون شاسع بين ما يتحدث به وبين سلوكه العملي, فهناك العديد من الشواهد التي تقول ان نظام الانقاذ ربما قد بدأ يعود الي ممارسات عقد التسعينيات, حيث نشرت جريدة الأخبار المصرية تقريرا وافيا في4 فبراير الماضي يشير إلي دخول مجموعات كوماندوز من الحرس الثوري الايراني وحزب الله وحماس, عن طريق الحدود المصرية السودانية. وهذه المجموعات كانت مكلفة بمهام محددة اثناء احداث الثورة المصرية, حيث نفذت كل من مجموعتي حماس وحزب الله تكليفاتهما( وهذا ما أثبته التقرير الرسمي عن أحداث ثورة يناير), أما مجموعة الحرس الثوري الايراني فقد فشلت في تنفيذ هدفها في قيادة هجوم علي مبني إتحاد الاذاعة والتلفزيون. ولعل هذا ما يفسر لنا أيضا التمركز الكثيف للغاية آنذاك للقوات المسلحة المصرية بآلياتها ومقاتليها لحماية هذا الموقع وصولا الي مبني وزارة الخارجية. وعقب ذلك بوقت وجيز قامت القوات المسلحة بتدمير ثلاث عبوات محملة بالأسلحة بعد ان دخلت الي الاراضي المصرية قادمة من السودان. هناك أيضا موقف الحكومة السودانية فيما يتعلق بإنتخاب أمين عام جديد للجامعة العربية, حيث جري الإعلان أن السودان سيصوت لصالح مرشح قطر ضد المرشح المصري, مع التذرع بحجج واهية, لتغطية مثل هذا الموقف الذي سوف يثير الكثير من علامات الاستفهام وسوف يلقي بلا شك بظلال كثيفة علي حقيقة وطبيعة مواقف وعلاقات نظام الانقاذ تجاه مصر.