لم تعد اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي فتحت باب التوقيع عليها في دولة المكسيك منذ ديسمبر عام2003, وأنضمت إليها مصر في سبتمبر عام2004, وقد تضمنت من النصوص حتي بلغت71 مادة بالتمام والكمال, كما لم تعد المشاورات أو المؤتمرات الدولية التي عقدت لوضع نصوص الاتفاقية موضع التنفيذ, وكان آخرها مؤتمر الدوحة الذي انعقد في نوفمبر2009, وكان الموضوع الوحيد التشاور حول آليات التعاون الدولي لتنفيذ أحكامها في مكافحة الفساد حتي لا تكون عباراتها مجرد حبر علي ورق أو دخان في الهواء, كما لم تعد نصوص الدستور وحده أو أحكام القانون كافية لتقدم لنا الدروس والعبر لمواجهةالفساد, أو ملاحقة المفسدين, مهما كانت تلك النصوص أو مفردات الكلمات, لم يعد ذلك كله سندا كافيا أو شاهدا بعد أن صارت المشاهد والمواقع التي جرت علي أرض مصر أقوي وأشد. فلقد قدمت ثورة25 يناير أحداثا تقع في باب المعجزات, لتكون شاهدا علي العصر وتملأ الدنيا كلها بالدروس والعبر الهائلة, ولتعلي بالدليل القيم والمعاني التي ترسخ الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد, ومنع تضارب المصالح واستغلال النفوذ والثراء غير المشروع, وإطلاق سيف العدالة بقوة وعلي الجميع, ليؤكد لنا ذلك كله أن السيادة للشعب, وأنه يظل دوما مصدرا لكل السلطات, وأن الظلم لابد أن ينجلي وإن طال مداه, وأن العدل لابد له أن ينتصر, وهي كلها معان ومبان رسختها المشاهد والدروس التي حفل بها الواقع المصري, فكانت أشد من النصوص ذاتها. والذي شاهده الرأي العام في مصر والعالم كله من وقائع وأحداث وتحقيقات قضائية واسعة حفلت بها سرايا النيابات وجهاز الكسب غير المشروع وساحات المحاكم, مع مسئولين كبار وشخصيات كانت تملأ السمع والبصر, امتدت إلي رموز البلاد والمسئولين عن إدارة شئونها لسنوات طوال حتي طالت الرئيس السابق وأسرته, ملأت أخبارها الدنيا بعد أن أصابت الناس بدهشة كبري وصدمة مفزعة, لما كشفت عنه من جذور الفساد وعمقه واتساع دائرته, حققت ثروات فاحشة أحدثت فجوة هائلة بين فئات المجتمع.. وسببت ظلما اجتماعيا بينا! كل ذلك شهد به الواقع وقدم العظة والدروس لمكافحة الفساد, وملاحقة مرتكبيه, مؤكدا أنه لا أحد فوق القانون, مهما بلغ شأنه, ومهما بلغ عمره, فكل طائره في عنقه, ولا تزر وازرة وزر أخري, وليتحمل كل منهم الجزاء والإيلام والعقاب مهما كان قاسيا, فلن تشفع له الأموال ولن ينفع له السلطان إلا ما كان في صالح البلاد بأمانة وذمة مهما طال الزمن, وكانت هذه الدروس الهائلة التي شهدتها البلاد عظة وعبرة, وأن العمل العام تكليف ولا تشريف, عطاء وتضحية, لا تسلط أو استئثار أو امتياز لأحد, ليتحمل المسئول أعباءه بأمانة وشرف, فمن يقدر علي ذلك فليتفضل, ومن لم يستطع فعليه أن يرحل. ومن الدروس الهائلة كذلك التي شهدتها البلاد بعد أحداث الثورة أن المتصارعين عليهم أن يمتنعوا, وعليهم التخلي عن التصادم والصراع وإشعال الحروب, فالمصلحة العامة فوق الجميع. ومصالح الشعب بكل فئاته أولي بالاعتبار, وفي ذلك فليتنافس المتنافسون بوطنية وبروح الفريق الواحد, بعيدا عن لعنة السياسة وآفاتها, والطموحات الشخصية التي تصل إلي درجات الانتحار السياسي, وبما يوجب علينا مصالحة هذا الشعب الأمين ومصارحته والاعتذار له عما كان, وأن نعلي المصلحة العامة ومصلحة الناس فوق رؤوس الجميع. من يصدق أيها السادة تلك المشاهد المدوية, وتلك الدروس الهائلة التي شهدتها البلاد بعد أحداث الثورة بما أصدرته سلطات التحقيق من أوامر المنع من السفر, واخطارات الترقب والمنع من التصرف في الأموال, وقرارات الايداع في السجون والإحالة إلي المحاكمات الجنائية, والكشف عن جرائم الفساد, وما أحدثته تلك الجرائم من آثار مدوية علي الاقتصاد والسياسة والمجتمع, فكانت تدميرا للتنمية وإهدارا لمصالح البلاد والديمقراطية ذاتها, جعلت من تلك المشاهد والدروس خير عظة وعبرة للجميع وأقوي من النصوص والمواثيق ذاتها. من يصدق أيها السادة أنه مع كل هذه العظات والعبر, فمازلنا نشاهد البعض ولو كانوا قلة يحاول اللحاق بمواكب الانحياز أو المجاملة, يحملون المباخر ويطلقون أناشيد النفاق ويدعون لأنفسهم قوة الوساطة وعمق الصلات هنا وهناك, وأن بوسعهم أن يتوسطوا لحفظ الاتهامات أو التحقيقات, وكذلك آخرون يطلقون الاتهامات أو التخوين ويدعون البطولات والمواقف العنترية, وكأن الدروس التي تقدم لنا المواعظ وترسخ الموضوعية والحيادية والوطنية, كأن كل ذلك لا يعظ أحدا. هذه الدروس والمشاهد أيها السادة رفعت هاماتها فوق الجميع, لتعلي المصلحة القومية في البلاد وهي أولي وأشد في هذه المرحلة الحاسمة, ولتدفع بالأصوات العاقلة لتنطلق مدوية, بعيدا عن الصراخ والعويل أو الابتهال والتهليل, بعد أن شهد الواقع أن بقاء الحال من المحال, وأن الحق أحق أن يتبع, وهو قديم لا يبطله باطل, ومراجعته خير من التمادي في الباطل, وهو ما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر, فمن خلصت نيته في الحق ولو علي نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس, وكل ذلك يجعل من المصالح العليا للبلاد الهدف والرجاء. كل ذلك أيها السادة بعض المشاهد والدروس التي حفل بها واقع الثورة, ومازالت تتابع أمجادها, لتؤكد لنا أن الحق أحق أن يتبع, وأن العدل أساس الملك, وسيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته هي الملاذ الآمن, ولا ينفع الناس ولا يشهد لها إلا العمل الصالح, والقول المستقيم, فالمناصب لا تدوم, والمال ينفد, وكل ذلك وغيره عدو, لصاحبه فليحذره, واختبار صعب إما أن ينجح فيه المرء أو يهان, والسلطان من لا يعرف السلطان إلا بالحق والعدل والنصح المبين, وكل ذلك يعلي مسئولية الجميع في إدارة شئون البلاد بأمانة واستقامة, بعد أن صارت المشاهد والدروس خير شاهد وأقوي بيان من النصوص ذاتها. المزيد من مقالات د . شوقى السيد