تشير دعوة الرئيس مبارك إلي الاجتهاد في تقديم خطاب ديني مستنير قضية حقيقية, وتجدر معالجتها بالأساليب العلمية والمنهجية الملائمة. فالأمر لا يقتصر في رأيي علي ما يقدم في دور العبادة من خطابات غير مدققة في بعض الأحيان. ولا علي ضوضاء القنوات الفضائية, التي تتشح بلباس الدين, وفتح الباب علي مصراعيه لطوفان من المتحدثين, الذين أدعو الله عندما استمع إلي بعضهم أن يهديهم وأن يرحمنا من أحاديثهم! إنني أعد كل ذلك عرضا لمرض, هو انفصال الخطابين الديني والتنويري في حياتنا الثقافية بشكل عام, وأرجو ألا يتعجب القارئ من هذا التشخيص, قبل أن أوضح أسبابه ومبرراته. قد ذكرت أهمية الاجتهاد, الذي صار فريضة غائبة في الكثير من أمورنا, لتقديم خطاب ديني مستنير, وأعتقد أن هذا النقد يجب أن يوجه بنفس الدرجة, أو أشد, إلي الخطاب التنويري السائد, وأرجو ألا أكون مجازفا. عندما أقر أن كلا الخطابين يتشككان في بعضهما. وأن الأشكال التقليدية لهما لم تبذل الجهد الكافي في الاجتهاد بحثا عن المساحات المشتركة, والالتقاء المخلص الذي يحقق المصلحة العامة. وألوم الخطاب التنويري بصورة أكبر, لأن مرجعيته الغربية الخالصة التي يستحيل تجاهل تجربتها ولا يصح الاكتفاء بها, وفشله في تقديم بعض المفاهيم الأساسية التي يتبناها, مثل العلمانية وحرية التفكير والإبداع وما يعنيه بفصل الدين عن الدولة, بصورة مقبولة ثقافيا, قد كرس انفصال الخطابين, كما لا يمكن تبرئة أصحاب الخطاب الديني المحدثين, من عدم الاستفادة مما في هذا الخطاب من ايجابيات, لأن الحكمة ضالة المؤمن, يسعي إليها أينما وجدت, لقد استفاد الغرب من عطاء الحضارة العربية الإسلامية إبان ازدهارها وانفتاحها واجتهاد علمائها ومفكريها, وعلينا أن نتعلم من هذا الدرس. ولعل من أكبر ما يزعجني كمسلم, أن الإسلام كان وسيظل بإذن الله دعوة للاستنارة والاجتهاد وطلب العلم والمعرفة. فلماذا ينغلق خطاب الكثير من أصحابه؟ ولماذا يتحولون إلي مدافعين عن أنفسهم بما ليس فيهم, كالتطرف والإرهاب؟ ولماذا تكون مرجعية بعض أبنائه, في الحديث عن التنوير, ملتبسة ومترددة؟ وكيف أدي ذلك في نهاية الأمر, إلي انفصال الخطابين؟ إن الأمر يحتاج إلي دراسة جادة, يقوم بها المتخصصون في سوسيولوجيا الثقافة وإن كان علينا الكثير مما يجب القيام به قبل انتهاء هذه الدراسة إن أجريت فعلا! إننا نبذل جهودا متواصلة في تطوير التعليم وتأكيد جودته واعتماد مؤسساته, وعلينا أن ننبذل جهدا موازيا في تطوير التعليم الديني, الموجه إلي إعداد الدعاة والوعاظ من أبناء الدين الإسلامي والمسيحي, إن مؤسسة الأزهر, هذه المؤسسة الوسطية العظيمة, وكليات اللاهوت المسيحية, يجب أن تختص وحدها بتخريج هؤلاء واعتمادهم, وأظن أن القائمين علي أمر هذه المؤسسات الحيوية لا يمانعون من تطوير برامجها, بما يجعل أبناءها يستوعبون روح العصر والمتغيرات العالمية ومنجزات التقدم العلمي والتكنولوجي ومغزي العولمة.. إلخ, في الوقت نفسه الذي يستوعبون فيه المعارف الدينية, وما قدمته من فضائل وقيم, كما أن هذه المؤسسات هي أبرز الأماكن لتدريس مفهوم المواطنة, وكيفية ممارستها فكرا وفعلا وأسلوب تقديمها في خطبهم وعظاتهم وفيها يمكن أن نشجع الاجتهاد الخاص بتقديم الخطاب الديني المستنير, المنفتح علي العالم من ناجية, والمحترم للسياق الثقافي من ناحية أخري, والداعي إلي التسامح واحترام الاختلاف والداعم للتقدم والتنمية في مجتمعاتنا. ورغم أن تطوير التعليم الديني سينعكس ايجابيا علي ما يقدمه الإعلام الجامح والمنفلت, إلا أن المدي القصير يستدعي التفكير فيما يجب عمله للحد من هذا الجموح والانفلات, فهذا هو حق المجتمع, وأجياله الجديدة, التي تتعرض لذلك وتتأثر به, ليس هناك وصفة سحرية لذلك في عصر السماوات المفتوحة والمفضوحة لكننا مرة أخري يجب أن نلجأ إلي الاجتهاد. قد يستلزم الأمر مثلا تنقية ما تقدمه القنوات التي يمكن تدقيق ما تبثه, بحيث يمثل نموذجا كاشفا لزيف ما يقدم في غيرها, وكذلك تفعيل ميثاق الشرف الصحفي, وغير ذلك من الوسائل الممكنة, والاجتهادات التي تستحق التشجيع, ويمكن مثلا أن تتبني مكتبة الأسرة تقديم سلسلة من الأعمال عن الخطاب الديني المستنير, يتم عرضها ومناقشتها علي هذه القنوات, باعتبار أن التليفزيون هو الأكثر انتشارا وتأثيرا. وبالمثل, علي مدرسة التنوير التقليدية, محدودة العدد والأثر, التي يكتفي أعضاؤها بمخاطبة بعضهم البعض أن تنفتح بصدق علي القيم الدينية كملهم للتنوير, وأن تتوقف عن توهم امتلاك الحقيقة المطلقة الذي تتهم به غيرها ودون أن يغضب رموزها من الأصدقاء الأعزلاء, عليهم الالتحام بصورة أكبر بالسياق الثقافي, واستيعاب تجارب التاريخ, والعمل في ضوء ذلك علي تطوير الواقع ومواجهة سلبياته من داخله, إن في خطابهم خير كثير, يستحق الاجتهاد لتقديمه بصورة أكثر قبولا وتأثيرا. وأعلم جيدا أن من بينهم من لديه المعرفة والقدرة علي توظيف القيم الروحية في تحقيق هذا الهدف, وكسر العزلة بين خطابي الدين والتنوير, فهي عزلة مصطنعة وغير محتومة أو مفيدة. وختاما, أود أن أؤكد أن الاكتفاء ببعض العبارات البلاغية ذات الطابع التنويري في الخطاب الديني, والعبارات التي تغازل الدين في الخطاب التنويري بما يشبه التقية, مع استمرار الانفصال والعزلة,لن يكون إلا حلا توفيقيا غير كاف, إنني من المؤمنين بالطبيعة التنويرية للدين, وضرورة البعد الديني في التنوير, وبأهمية العلاقة العضوية بين الخطابين وعلي من يقتنع بذلك حتي إن كانوا قلة أن يجتهد في إحداث التواصل العضوي المطلوب وأن يحقق مقولة الاجتهاد هو الحل.