دعاني الأستاذ أسامة كمال, الإعلامي المعروف ومنظم مؤتمر ومعرض القاهرة الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, للمشاركة في حلقة نقاشية, جرت ضمن فعاليات أول لقاء يعقد منذ قيام ثورة يناير لقادة قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من الحكومة والقطاع الخاص والقطاع الأكاديمي. , لمناقشة كيف يمكن أن يسهم القطاع في بناء مصر مستقبلا علي ضوء ما جري ويجري خلال الثورة, وحصيلة ما خرجت به من اللقاء أننا كنا بصدد نقاش اعتيادي يجري في ظل ظرف استثنائي, وهو ما جعل اللقاء من وجهة نظري ينجح تنظيميا بصورة جيدة, لكنه موضوعيا لم يرق إلي ما تفرضه أو تتطلبه ظروف القطاع في ظل ثورة تعيد ترتيب كل شيء بالبلاد, وهو ما قلته تفصيلا خلال مداخلتي بالحلقة النقاشية. عقد اللقاء يوم الثلاثاء الماضي, وبدأت فعالياته بكلمات قدمها مسئولون من بضع شركات حول مبادرات أو مشروعات يرون أنها تخدم القطاع والوطن في مرحلة الثورة, ثم تلا ذلك الإعلان عن بروتوكول تعاون بين الصندوق الاجتماعي للتنمية وهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات يستهدف دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة بالقطاع, وبعد ذلك بدأت الحلقة النقاشية التي أدارها الإعلامي أسامة كمال وكان علي المنصة الدكتور ماجد عثمان وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ومديرا اثنتين من شركات المحمول, ومدير شركة آي بي إم والدكتور عبدالرحمن الصاوي وكاتب هذه السطور, أما القاعة التي تابعت نقاش المنصة ثم شاركت بالأسئلة والتعليقات, فكانت ممتلئة تقريبا بكبار قادة القطاع بالهيئات والمؤسسات التابعة للوزارة ورؤساء شركات القطاع الخاص والجهات الأكاديمية ومديرو الشركات العالمية بمصر. لم تخرج الأفكار والمناقشات التي شهدها اللقاء سواء في الكلمات التي قدمها مسئولو الشركات أو من كانوا علي المنصة أو من شاركوا بعد ذلك من الحاضرين عن النقاط التالية: المصاعب المالية والخسائر التي تواجهها شركات القطاع حاليا كنتيجة مباشرة لأحداث الثورة وما صاحبها من حالة عدم استقرار. الانكماش المتوقع في الطلب علي تكنولوجيا المعلومات خلال الأجل القصير وربما المتوسط خاصة من جانب القطاع الحكومي الذي يعد الزبون الأول في كثير من الحالات. تركيز العبء الأكبر من هذه المصاعب في قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة التي باتت الأولي بالرعاية الآن. وجود حالة من الارتياب والغموض لدي البعض فيما يتعلق بالمستقبل والسياسات المتوقع اتباعها من قبل الدولة تجاه القطاع. قلق من الفجوة بين القطاع وجماهير الشعب الواسعة وتأثير ذلك علي فرص العمل والاستثمار والنمو والبيع. ضرورة استكشاف فرص جديدة للعمل والاستثمار داخل القطاع الحكومي وقطاعات الدولة المختلفة. موقف الدولة عبر وزارة الاتصالات من هذه النقاط جميعا وكيفية التعامل معها, وحدود الدعم أو المساندة التي يمكن أن تقدمها للقطاع. في المداخلة التي قدمتها قلت إنني اختلف مع هذه الأفكار جميعا, اختلاف ليس مع موضوعها ولكن مع توقيتها, ومع جعلها تتصدر الساحة وحدها وأن تحتل مكانة الأفكار التي كان يتحتم أن تكون لها الأولوية في هذه اللحظة الفارقة.. كيف؟ مجمل الوضع الراهن الآن أننا في ثورة, والثورة تعني هدم لواقع مرفوض يعقبه بناء لمستقبل مختلف ومطلوب, وأثناء الثورة يكون هناك مطبخ يعد فيه البناء الجديد الذي سيظهر مستقبلا, وتوضع من خلاله قواعد هذا البناء وأدوار كل الأطراف المشاركة فيه, وفي لحظات إعادة البناء وإعادة ترتيب الأوضاع, يحدث نوع من صراع الإرادات, يفرض علي كل الأطراف بالدولة والمجتمع الانتباه لمصالحها العليا طويلة الأجل, وتقديمها علي كل مطالبها الآنية قصيرة الأجل, ويحتم أن يكون لها رأي وإسهام يجعل البناء يصمم بالطريقة التي تحقق لها هذه المصالح بأكبر قدر ممكن, أو علي الأقل تجعل المستقبل لا يتجاهل هذه المصالح ولا يأتي متصادما معها. وفي هذا الصدد قلت أمام الحضور أن الوضع الآن في مصر أشبه بمادة في حالة سائلة, جاري تشكيلها وتتجه لأن تصبح قطعة صلبة في وقت قصير, والآن يسعي كل طرف أو قطاع بالدولة والمجتمع لأن يقدم من الرؤي والأفكار والجهود ما يجعله يخط خطا أو يحدث شيئا بهذه المادة السائلة, ليظل بعد ذلك علامة دائمة منسوبة له, تضمن له موطيء قدم أو تحقق له شيئا, حينما يستقر الوضع وتتحول المادة من السيولة إلي التصلد. في ظل هذه الظروف الاستثنائية: هل من الصواب أن يكون مضمون الرسالة التي تخرج عن أول اجتماع لقادة قطاع تكنولوجيا المعلومات بعد الثورة عبارة عن مطالبات قصيرة الأجل تتعلق بتراجع العائدات وانكماش فرص العمل وخطر تسريح العمالة وغيرها من النقاط السابقة؟ تقديري أن الرسالة بهذه الصورة تعد رسالة خطأ, لأن النقاش والتفكير في ظل ثورة تعيد بناء النظام السياسي والإداري والاقتصادي للدولة لا يجب أن يتقزم ليقف عند هذه الأمور, بل عليه أن يرتفع ويتعملق; ليتناسب ويليق بالحدث الكبير الذي تمر به البلاد. ومادام النقاش كان تفصيليا وقصير الأجل إلي هذه الدرجة, فلا أجد أمامي سوي إعادة قول ما قلته في هذا المكان قبل ثلاثة أسابيع, وهو أن قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ظل طوال السنوات الإحدي عشر الماضية, قطاعا هامشيا بعيدا عن منطقة صنع القرار وجماعة أهل الحل والعقد بالبلاد, ومحظورا عليه المشاركة بندية وفاعلية في الغالبية الساحقة من قضايا الوطن المصيرية الشائكة, بل وفي بعض القضايا التي تخصه, كالكابلات البحرية ونشر تكنولوجيا الواي ماكس والمدفوعات المالية عبر المحمول وغيرها, كما ظل أسيرا لنظرية تقوم علي أنه قطاع السلك والجهاز وتكنولوجيا المعلومات وليس للمعلومات, وهي النظرية التي جعلت مهمته فنية بحتة, وبسبب هذه النظرية كان وزنه بين قطاعات الدولة أقرب إلي الوردة التي يضعها النظام أو الحكومة علي الجاكت ليتباهي بها خارجيا أو يتاجر بها سياسيا علي الجماهير في الداخل. والآن وفي ظل الثورة أصبح أمام القطاع فرصة نادرة لكي ينتقل من هامش صنع القرار بالبلاد إلي قلبه, ولذلك كنت أتمني أن تخرج من اللقاء رسالة تطلب إلي كل من يعمل بالقطاع أن يسهم بمنتهي الجدية والعزم في صياغة رؤية تتوجه إلي الدولة ودائرة الحكم وصنع القرار, وتتناول كيفية إدارة الدولة في المرحلة المقبلة من منظور المعلومات وتكنولوجياتها وأدواتها, وتحدد بوضوح موقع المعلومات وتكنولوجياتها في هرم السلطة والإدارة والتخطيط بالدولة, ولماذا يضغط القطاع من أجل وضع المعلومات في هذا الموقع بالتحديد, وما الذي ستجنيه البلاد من وراء ذلك, وما الثمن الذي ستدفعه الدولة إذا لم توضع المعلومات وتكنولوجياتها في هذا الموقع داخل هرم السلطة والإدارة, لأن هذه الرؤية هي الطريق الوحيدة لبناء صناعة قوية ذات قواعد راسخة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالبلاد, صناعة قادرة علي امتصاص الأزمات وتجاوزها ومواصلة النمو, وهي الرؤية التي تقدم علاجا للداء الأصلي الذي بسببه تتراكم الأعراض الأخري الفرعية التي تحدث عنها الحاضرون باللقاء. كنت اتمني أن يناقش الحضور كيف يمكن إقناع الدولة بأن مهمة قطاعهم الآن هي الانتقال بالدولة والوطن من نموذج الدولة التقليدية القديمة بكل سوءاتها, إلي نموذج الدولة العصرية المستندة للمعرفة, وهو النموذج الذي تلعب فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا حاسما, وكنت اتمني أن يناقش الحضور كيف سيؤدي إهمال هذا الطرح إلي بناء نظام سياسي مقبول شكلا, لكنه ليس سوي غلاف رقيق لدولة في جوهرها متخلفة إداريا مستبدة بيروقراطيا, يدها ثقيلة وحركتها بطيئة, تمن علي مواطنيها بخدماتها, وتهيمن عليهم بسلطاتها, وتضن عليهم بمعلوماتها, فتقل فرصتها في أن تكون دولة مبدعة منتجة مستقلة سريعة الحركة متوازنة الأداء. وكنت اتمني أن تنطلق هذه المناقشات من قناعة تري أن مهمة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الآن هي العمل كوقود لعملية تطوير هدفها الانتقال بمصر إلي وطن: شفاف لا مكان فيه لفساد أو احتكار لسلعة أو خدمة أو سلطة. أداؤه كفء تنخفض فيه التكلفة للحدود الدنيا وترتفع فيه الجودة للحدود القصوي. يأخذ من موارده المحدودة أقصي ما يستطيع ويوزعها علي مجالات إنفاقها بأعقل وأعدل وأنسب ما يكون. يفقد أو يهدر من موارده أقل ما يكون ويعيد توزيع عوائد موارده علي مواطنيه بأعدل ما يكون. يقرأ ويعرف تفاصيل مجتمعه بأصح وأدق ما يكون وأسرع ما يكون. تنساب معلوماته وبياناته فيما بين أطرافه ومواطنيه بدرجة تضمن أن تكون مراكز تفكيره وإدراكه عصرية مستمرة التجدد فعالة القرارات. مؤسساته وهيئاته مترابطة عضويا ولحظيا ويلفها جميعا إطارا قويا من الثقة المتبادلة التي تقلل أي مظاهر للفرقة أو الاحتقان أو سوء الفهم أو الإحباط غير المبرر في النفوس. إذا ظل القطاع يخاطب الدولة بحديثه العادي في هذا الظرف الاستثنائي, فعليه أن يعرف من الآن أنه لن يصل إلي دواء شاف وناجع يخلصه من أوجاعه علي المدي البعيد, ومن ثم لا يصح أن يخرج منه أحد ليدغدغ مشاعر الجماهير بحديث عن عائدات تصدير بالمليارات وفرص عمل بعشرات الآلاف أو غيره, وأمام القطاع الآن أحد أمرين: إما تغيير الرؤية ومستوي الإسهام في التفكير والنضال من أجل المشاركة مع صانعي القرار, أو البقاء لعقود قادمة كوردة علي جاكت الدولة.