في مقاله بالأهرام الأسبوع الماضي تناول الدكتور مصطفي الفقي ثورة المعلومات وعلاقتها بالتغيير السياسي, وقدم تحليلا رصينا للعديد من النقاط المهمة في هذه العلاقة, لكن هذا التحليل المهم احتوي علي نقطتين جديرتين بالمناقشة, الأولي وصف فيها الدكتور الفقي ثورة المعلومات ب العالم السفلي , والثانية انتقد فيها ثورة المعلومات قائلا إنها تجمع الملايين ولا تفرز الزعماء, وليسمح لنا الدكتور الفقي بالاختلاف معه كلية في هاتين النقطتين, لأن ثورة المعلومات في جوهرها عالم علوي شديد الوضوح, قائم في الأصل علي العلانية والشفافية والمشاركة في المعلومة والتفاعل في الرأي, كما أن الشباب في يناير لم يكن بلا قيادة بل كان لهم قائد عظيم واضح كل الوضوح. وحقيقة الأمر أن هاتين النقطتين لا يقول بهما الدكتور الفقي وحده, وإنما سبق للكثيرين تناولهما في سياقات مختلفة وبصياغات متنوعة, جميعها تصب في خانة واحدة, وهي أن ما حدث لم يفهم جيدا من قبل الكثير من رموز وقيادات الدولة العجوز أو دولة العواجيز بتعبير عبدالرحمن الأبنودي في قصيدة الميدان, وهو أمر أشار إليه الدكتور الفقي بصراحة جديرة بالاحترام, حينما ذكر بالنص إنني أشعر بصدق أنني قادم من عالم مختلف بل وينتابني إحساس بالعزلة تجاه ذلك العالم السفلي بما له وما عليه. وهذا بالضبط هو بيت القصيد الذي نحترم الدكتور الفقي علي الصدق في طرحه بلا مواربة أو تحايل أو التواء, فالرجل عبر بهذه الكلمات الصريحة والشجاعة عن الحيرة التي أبداها الكثير من رموز دولة العواجيز في ثورة25 يناير, ممن تعاملوا مع الثورة بمعايير قديمة وعتيقة, تري أن أي تحرك جماهيري ما هو إلا جبل أو هرم بقاعدة وقمة, فلما حدثت الثورة قالوا إنها حركة فجائية بلا قيادة, ولم يدركوا أن هذه الثورة خرجت من رحم الإنترنت بما تحمله من طبيعة مختلفة, وليست سفلية. ولتوضيح النقطتين اللتين قدمهما الدكتور الفقي في تحليله أجدني مضطرا للعودة إلي بعض مما كتبته في هذا المكان يوم15 فبراير الماضي تحت عنوان ثورة بلا قيادة والسر تكنولوجيا الويكي, والذي أوضحت فيه أن ثورة25 يناير وما بعدها تعد من الناحية المعلوماتية حالة من حالات التواصل الإنساني الرقمي التي تشكلت عبر الشبكة ثم وجدت طريقها إلي الشوارع والميادين, والتواصل الإنساني الرقمي ظاهرة تعود جذورها إلي النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي, حينما تجاوزت الشبكة مرحلة تبادل البيانات بين طرفين أو عدة أطراف تعمل وفق إطار مؤسسي داخل منشاة أو هيئة أو أكثر ومغلق علي أصحابه ومستخدميه ويحدد لكل منهم صلاحيات بعينها, وانتقلت لمرحلة إنشاء قنوات لتبادل معلومات وأفكار وآراء بين أطراف لا يحكمها إطار مؤسسي وليس بينها من علاقة سوي الاستخدام المشترك للشبكة ومواردها المفتوحة للجميع. استمر التطور وبدأت تظهر أشكال من التواصل الإنساني تشمل تبادل المعلومات والرأي والنقاشات علي فترات متباعدة زمنيا, بمعني أن الأدوات والتكنولوجيات المستخدمة كانت- علي سبيل المثال- تجعل من المحتم علي من يطرح رأيا أو يبعث بمعلومة أو مشاركة في قضية ما يحتدم حولها الجدل أن ينتظر لفترة ربما تطول لساعات أو أيام حتي يتعرف علي ردود وملاحظات واتجاهات الآخرين حيال ما يطرحه, وبالتالي كان التواصل في مجمله يجري ببطء. بمرور الوقت راحت هذه الأدوات والتكنولوجيات تتطور وتتسع, فمن الناحية الأدائية بدأت تنتقل من الأدوات التي تحقق تواصلا بطيئا إلي الأدوات التي تحقق تواصلا سريعا وصل الآن إلي ذروته بحدوث التواصل اللحظي أو الفوري, كما أصبحت تتسم بمزيد من السهولة في الاستخدام ورخص التكلفة, حتي بات باستطاعة أي شخص استخدامها بمجرد اكتساب بعض المهارات البسيطة التي يمكنه الحصول عليها بالتدريب والتعلم الذاتي, ومن ناحية الانتشار والجماهيرية انفتحت علي مجالات جديدة وانتقلت من التخصصية إلي العموم, ومن دائرة المعلوماتية المنغلقة علي أصحابها والمهتمين بها إلي رحابة عالم السياسة والأدب والثقافة والفن والاجتماع والترفيه والعقيدة وغيرها. حدث بعد ذلك سباق عالمي محموم لوضع الأسس اللازمة لتحقيق التلاحم والاندماج أو التمازج بين كل من شبكات المعلومات وشبكات الاتصالات الثابتة والمحمولة, والبرمجيات المعقدة القابعة في أقبية المؤسسات والشركات, والإلكترونيات والشرائح الدقيقة المبثوثة في ربوع العالم في صورة أجهزة وآلات وأدوات بالمصانع والمنازل والمباني وأحيانا في رقاب الكلاب والبقر وعلي فروع الشجر, ليتحقق في النهاية إطار يسمح للجميع بالعمل المشترك الذي يكمل بعضه البعض. ومع التباشير الأولي للقرن الجديد كانت هذه التطورات قد جعلت عملية إنتاج وتداول وتوزيع وتوظيف المعلومات تنتقل من مراكز اتخاذ القرار العليا للمجتمع لتقف علي الأرصفة والميادين والمقاهي والنوادي والشواطيء والأرائك في غرف الاستقبال بالمنازل, فبدأ ما يعرف بأنشطة الويكي, أي الأنشطة القائمة علي التعاون والعمل المشترك والبناء من أسفل, في سلسلة أفقية تمتد كالخط المستقيم, في امتداد لا نهائي من الافراد والأشياء التي تتعاون وتتناغم معا لتصل إلي فعل مشترك, عبر الأداء السريع الذي يعمل فيه الجميع بندية واحترام, ويتعارفون ويتشاركون ويمتلكون حرية مطلقة في التعبير, ويمتلكون فيه وسائل سريعة لقياس الآراء وصنع القرارات بصورة تشاركية كاملة, وهذا يختلف جذريا عن التحرك المعتاد الذي يبحث عنه الدكتور الفقي, ويتخذ الشكل الهرمي ذي القاعدة العريضة والقمة المدببة التي تتسع لفرد واحد هو الزعيم أو القائد أو الملهم. وحينما بدأت أنشطة الويكي تنتشر علي الإنترنت عام2004, ثم نضجت أكثر بعد ظهور الشبكات الاجتماعية في2006, كان المجتمع المصري علي موعد مع القدر, حيث قام الشباب بقطف هذه الثمار, وبدأ يستخدم ويوظف هذه الأدوات من حيث انتهي الآخرون, فتشكلت نواة للتعبير عن الرأي عبر الشبكة, عبر المدونات السياسية, ثم سرعان ما تركزت بعد ذلك في مجموعات وصفحات علي الفيس بوك وحسابات علي تويتر وغيرهما, فارتفع التوظيف السياسي للشبكة إلي أقصي مستوي له, بعدما تشكلت مجموعات شبكية عريضة النطاق, تضم في عضويتها مئات الآلاف من الشباب, وعملت بأنشطة الويكي, في نشر الأفكار, ثم الحشد والتخطيط واتخاذ القرارات وانتهاء بالتنفيذ والمتابعة والتوثيق, وفي جميع هذه المراحل كانت المعلومات والبيانات المولدة عبر أدوات الويكي المختلفة هي الوقود الوحيد المتاح للشباب, واتسمت عشرات التنظيمات الشبكية المستندة لأنشطة الويكي بالسمات التالية: لا قيود علي حرية التعبير. لا شروط للانضمام لأي نشاط أو مجموعة أو تنظيم أو صفحة أو مغادرتها والانفصال عنها. لا قيود أو شروط علي مستوي ونوعية حجم المشاركة. اعتماد تام علي آليات التواصل اللحظي الجماعي كاستطلاعات الرأي الإلكترونية والتصويت الفوري لاعتماد أي قرارات أو خطوات في أي قضية في أي وقت وبمنتهي السرعة بمشاركة الجميع. مساواة كبيرة في الحقوق والواجبات وتوزيع الأدوار بالنسبة لجميع الأعضاء, بدءا من مجرد التعبير عن الرأي وانتهاء باتخاذ المواقف والقرارات. اعتماد مطلق علي التنظيم الشبكي الأفقي الذي يوفر شعورا بالندية والمساواة والاحترام بين كل الأعضاء المشاركين. الحرية الكاملة في كشف أو إخفاء شخصية العضو أو المشارك, سواء بصورة كلية أو جزئية, دون أن يرتب ذلك أي نوع من التأثير علي احترام او فعالية العضو, ومن ثم كانت الغالبية الساحقة من الأعضاء في كل التنظيمات لا تعرف شيئا عن بعضها البعض بصورة شخصية. تقدير واحترام كامل لأي مساهمة أو أي جهد مهما صغر أو كبر. إعلاء الفكرة والقيمة والإبداع وروح الجماعة علي الأشخاص, حتي لو كانوا منشئوا المجموعة أو النشاط ومنظميه لأنهم في النهاية أفراد متساوون مع الآخرين. وهكذا فإن من تحركوا ونظموا25 يناير وما بعده هم نتاج مرحلة التواصل اللحظي وأنشطة الويكي الشبابية بسماتها السابقة, من حيث التخطيط والتنفيذ الجماعي, ولذلك لم تكن الثورة بلا زعيم بالمنطق الذي تحدثت الدولة العجوز, ولم تكن مفاجئة أو آتية من عالم سفلي كما يقول الدكتور الفقي, بل كانت نذرها وإرهاصاتها واضحة لملايين ممن يتابعون ما يجري في هذا العالم الجديد, أما قائدها فلم يكن شخص بل فكرة, آمن بها كل من جلس إلي حاسبه وبدأ يكتب علي لوحة المفاتيح ثم انتهي به الأمر مناضلا في الشوارع والميادين, وهذه الفكرة هي حب الوطن لا أكثر. خلاصة القول أن قائد الثورة ليس شخص أو جماعة, بل هو فكرة وهذه عبقرية ثورة يناير التي أثارت الإعجاب لدي العالم والغرب في المقدمة, ظهرت علي الملأ وقرأها الملايين واتبعها الملايين ونفذها الملايين, فكرة وم تحدث في العالم السفلي, بل في أشد بقاع العالم إضاءة ووضوحا وارتفاعا, وهي الإنترنت التي قامت أصلا علي المشاركة والمصارحة والعلانية والشفافية, وإذا كان الدكتور الفقي يعترف بأنه من عالم مختلف وينتابه إحساس بالعزلة, فهذا ليس لأن ثورة المعلومات طلاسم ولوغاريتمات صعبة, بل لأنه لم يجرب ولم يحاول أن يدخل هذا العالم, الذي دخله وتفاعل معه الملايين من مختلف الأعمار والمستويات الثقافية والتعليمية ومن مختلف الأجناس بلا صعوبة, وأدعو الدكتور الفقي أن يبدأ الدخول وسيجد الأمر سهلا ممتعا فعالا وواضحا وليس سفليا علي الإطلاق.