لأن خطابي النقدي قبل ثورة التحرير كان دائما عن جماليات الحرية وتأصيل قيم الديمقراطية والتفكير العلمي في الإبداع الأدبي فإني أواصل ماكتبته قبلها دون تغيير مكملا رؤيتي لرائعة رضوي عاشور. كانت رائعة بهاء طاهر الحب في المنفي وتوثيقية صنع الله إبراهيم بيروت بيروت, هما اللتان بقيتا في ذاكرة الأدب العربي من مذابح صبرا وشاتيلا حتي جاءت طنطورية رضوي عاشور لتنقل الإطار الكلي للأحداث والتفاصيل اليومية لحروب المخيمات من داخل القلوب المكلومة ذاتها بشكل ملحمي يحقق درجة عالية من الأسطرة والكثافة والشعرية. وربما كانت حساسية الراوية الأنثي هي الأقدر علي النفاذ إلي روح الأمكنة والتقاط ظلال الشخصيات, مما جعل لوحات الطنطورية الحية معلما متفردا في الرواية العربية التاريخية.. لأن مصداقية الفن لا تكمن في درجة تطابقه مع الواقع بقدر ماتتعلق ببراعة التمثيل الجمالي له. وتجسيد أسرار الظلال المحيطة به بكل سحرها الفتان. تصف رقية مثلا لحظة ولادتها لابنها صادق كان الرضيع بجواري علي الفراش. كانت واهنة بعد ليلة طالت كأنه أبد انفلت مني الصوت أمام تلك الفأس التي تضرب بلا رحمة أسفل ظهري, ترج البدن, تزلزله, يتشقق ويبدو علي وشك أن يتطاير شظايا ويتداعي ويتحول إلي أنقاض, ثم يسكن الألم قليلا كأنه يتبدد أو يوشك.. دقيقتان وتعود الفأس تضرب من جديد هل هذا مايشعر به الشجر حين تضرب جذعه فأس الحطاب, جسم يزلزله المخاض, وإذا كانت صورة متخيل الولادة مغموسة بدم الأنقاض البيروتية فإنها تحدس بما تضمره حنايا الشجر من تغلغل الجذع في الأرض دون انخلاعه, فالمقاومة تأصلت في لبنان بفعل الاقتلاع الأول وأسفرت عن ولادة جديدة. أما في اليوم التالي عندما أخذت تتطلع في الولد فوجدته صغير الوجه والتقاسيم, يداه تظهران من الأقمشة كقطعتي عجين مدورتين وطريتين, كأن يدا ماضغطت علي كل واحدة منهما فتكونت من العجين غمازات أنبتت أصابع دقيقة يصعب تحديد طولها وهي هكذا منقبضة مغلقة, لم أستطع إلا أن أتطلع في الوليد, حملته لي خالتي فإذا به بين ذراعي, شعرت بنغبشة في صدري لم تحدث لي من قبل لن أعير ساعتها أنه دفق الحليب هكذا تتخلق الحيوات من أصلاب الآباء والأمهات, فتتولد دورة الحياة, وليس أقدر من المرأة علي تمثيل هذا التوالد, ومراقبة بزوغ الأطفال والألبان وحركة النسغ وهو يسري في عظام الصغار عندما يكبرون فجأة, وقد لايكون لهذا علاقة مباشرة بالإطار الكلي للوحة الشاملة, لكنه هو الذي يمنحها صلابتها وتوهجها ونبضها الدافق, هو الذي يعطي للحياة إيقاعها وللزمن حضوره وللبشائر دلالتها.. المبدعة الأنثي فقط هي التي تستطيع رصد نمو الأولاد والبنات بفعل ماتطلق عليه الراوية الزنبرك وقفزاته, حيث ينفلت في الركبين فإذا بالولد في عامين اثنين ينقلب من صبي فقير ونحيل إلي شاب يفوق أخويه ووالده طولا, هل يقتصر فعل هذا الزنبرك علي طول الجسم وعرضه أم يشمل وعيه لأنه وجد منفذا لطاقته الحيوية طوفان المسيرات تسلط رضوي عاشور رؤيتها علي تفاصيل احداث بيروت ولبنان كلها خلال الحرب الأهلية التي لم يختف شبحها تماما حتي اليوم, فتجسد حركة المسيرات التي يبدو أنها المشاهد المرشحة لتغيير اتجاه التاريخ في اللحظات الفاصلة في الوطن العربي, فتري مئات الآلاف يتناسخون بين الليل والنهار في جسد واحد لحيوان خرافي له رهبة وجلال. يتقدم وئيدا بخطوات تزلزل الأرض رأيت ذلك بأم عيني في جنازة غسان كنفاني في شهر تموز, ثم لاحقا وبعد تسعة أشهر في جنازة كمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان, رأيته ثانية فتمثلت مالم أتمثله في المرة الأولي.. انظر من بعيد الآن, امرأة خرجت مع زوجها وأولادها الثلاثة وعمها وابن عمها, وأطياف أمها وأبيها وشقيقيها الذين بقوا في مقبرة مجهولة وجماعية هناك وكل ماتعرف هنا من أصحاب وجيران ومالا يحصي من بشر لاتعرفهم يزحفون بامتداد عدة أميال يودعون أربعة شهداء ثلاثة رجال وامرأة قتلوا في غرف نومهم في فردان, تري المرأة خلفها هدير موج الجماهير وتنظر أمامها فترات, لا الجنازة جنازة ولا الحداد حداد إنه التاريخ يتحرك ويعيد نفسه بأشكال ومواقف مختلفة ليجسد إرادة الشعوب في الحياة واجتماع كلمتها علي مسيرة المستقبل مهما كان عناد الظروف الطاغية, ومع أن الراوية ستسجل بعد ذلك عشرات المشاهد الدامية في مئات الصفحات فإن هول الصدمات الأولي المزلزلة لن يفارق ذاكرتها ولن يبرح مخيلتها, فقد أصبحت أسيرة للمسيرات الجنائزية التي ظلت تصبغ خيالها وحياتها بقيةأيام العمر, وهذا من نتائج تقنية الراوي الواحد الذي يحيل تقلبات الليل والنهار في الأعوام والعقود إلي منظور متماسك. قادر علي أسطرة الأحداث وصبغها بالصبغة الملحمية في شمولها وكليتها وجلالها التاريخي المهيب المضمخ بعطر الزمن. علي أن مايتوازي مع هذه الذكريات الضخمة ويمنحها شموخها هو علي وجه التحديد التفاصيل الصغيرة الأليفة الداخلة في صميم البنية الروائية والمشكلة لملامحها المميزة, وذلك عندما تسترجع الأم مع هذه المشاهد المأساوية مسيرات أبنائها, وقد رأتهم ينمون شبرا شبرا, صادق الذي أصبح مهندسا معماريا ناجحا أصبح أمره ملتبسا وغريبا علي أمه ذاتها, فهو يقيم في الخليج وتتوسع شركته يوما بعد يوم, وتدر عليه أموالا تفوق قدرتها علي التعامل مع الأرقام يتولي مساعدة شقيقيه والإنفاق علي أخته وعلي الأم ذاتها, يتبرع لهذه المؤسسة الفلسطينية أو تلك, بل يلتزم وبتعليم ثلاثة شبان من عين الحلوة, يتابع تعليمهم حتي يتخرجوا ويؤمن لهم الوظيفة ثم يتبني غيرهم لكن.. ما مأخذي عليه, اجتهد وساعده تعليمه وفطنته وخطه, باختصار جد في بلاد النفط فوجد ما المشكلة؟ ما المأخذ؟ حكمي عقلك يا رقية ولنحسب الأمور بهدوء, هل كنت تفضلين أن يختنق بالخزان خلال سفره إلي الخليج, مثل شخصيات غسان كنفاني فلا يصل الي النفط, أن يبقي في عين الحلوة يبحث عن عمل فيصطدم بالقوانين ولا يجد, أن يحمل السلاح وينتهي به الأمر في مكتب من مكاتب تونس, أو يصبح عنصرا محاصرا في اليمن أو الجزائر, لايجد سبيلا للالتقاء بزوجته وأولاده, هذه مسيرة المصائر البشرية في إشكالاتها الحاسمة, حيث ينعي البعض علي الفلسطينيين نجاحهم الفردي في مهاجرهم التي اضطروا للذهاب إليها, وكأن ذلك خيانة لقضيتهم الوطنية, تناقشه الكاتبة بحسها اليساري اليقظ وافتراضاتها الواقعية واضعة شروطا ضمنية لتقبل هذا النجاح, من أهمها أن يخصص جزءا من دخله لتحمل مسئولية عدد من أولاد المخيمات وضمان تعليمهم ومستقبلهم, لكنها مع ذلك تنهي افتراضاتها بلهجة السؤال الذي لا يقين فيه, فهي لاتعرف أي هذه الخيارات كان الأفضل بالنسبة للأفراد والأسرة والمجتمع الفلسطيني بأكمله, علي أن هذه الخيارات مجرد احتمالات لا أكثر فمن ذا الذي يتوهم أن أقداره ومسيرته كانت خيارا بين بدائل ممكنة ومتاحة؟ أما الابن الآخر وهو حسن فإن مصيره يمثل الوجه الآخر للقدر الفلسطيني في مأزقه الوجودي, فبعد تخرجه من حقوق بيروت يعمل خلال الصراع فدائيا متحمسا لدرجة أنه يهبط من سفينة الخروج مع عرفات قبل انطلاقها ليبقي مع فلول المتخفين في بيروت ويرعي أمه وأخته ويتقصي مصير أبيه المفقود تحت انقاض المستشفي فإذا ما أتيح له أن يهاجر بعد ذلك إلي أوروبا كان مشروعه الذي يستقطب العون التقني والبشري والمالي له أن ينشئ مؤسسة قانونية تقوم بدراسة القوانين في مختلف البلاد الأوروبية, بحثا عن المنافذ التي يمكن استخدامها لرفع قضايا علي الأفراد والجيوش والسلطات الإسرائيلية, ثم إعداد قائمة بعدد موثق من هذه القضايا بالشهادات والدراسات. أما العنصر الثالث فهو العنصر البشري ويعتمد علي الاتصال بالأحياء من المضارين في المذابح وأقربائهم وشبكة أخري من القانونيين ويظل ذلك رهنا بإمكانات التمويل المادي, وعندما يطلب حسن من أخيه الإسهام في تمويل هذا المشروع يعلن عن التبرع بثلث ثروته, وكأنه يقدم النموذج الأقوي والأجمل لأثرياء الفلسطينيين ومع أن بناء الرواية الشامخ يستقطب كثيرا من العناصر الأخري التي لايتسع المجال للخوض فيها, ويستمر حتي تشهد رقية احتفالات تحرير الجنوب اللبناني, وتصدح بموسيقي أفراحه, ثم تذهب في تجربة نادرة لإقامة لا تطيب لها في الخليج فترصد كثيرا من مظاهر الحياة فيه قبل أن تصحب ابنتها مريم لدراسة الطب في جامعة الإسكندرية سنوات طويلة تعود بعدها إلي صيدا بديلة الطنطورية فإن شعرية التاريخ وملحمية الأحداث وشبكة التقنيات السردية ولوحة النماذج البشرية التي توظفها الكاتبة بمهارة فائقة تجعلنا أمام عمل استثنائي في الرواية العربية. المزيد من مقالات د. صلاح فضل