تتصدي المبدعة المصرية الكبيرة رضوي عاشور, بأستاذيتها الصارمة, وطاقتها البحثية الجبارة, لمهمة ناءت بها كواهل الكتاب العرب, وهي التسجيل الفني الموثق لملاحم الهجرة الفلسطينية المتتابعة, والمقام في الشتات, خاصة في لبنان, وحروب بيروت الطاحنة, وكنت أعجب خلال قراءتي لروايتها الضخمة الطنطورية وهي قرية فلسطينية ساحلية احتفظ اهلها مثل غيرهم بمفاتيح بيوتهم وورثوها لأولادهم كيف استطاعت هذه الكاتبة المثابرة ان ترمم ذاكرة وطن يضيع بأكمله وتقيم له هذا النصب التذكاري المهيب. لا تكفي معايشتها الطويلة لقرينها الشاعر المبدع مريد البرغوثي, وهي تهدي له عملها الشامخ لتفسير هذا الفيض المتدفق من المعلومات التاريخية والانسانية والجمالية التي تعج بها الرواية, فهناك عشرات النماذج البشرية من النساء والأطفال والرجال, عرفت كيف تلدهم مكتملي الخلق وتدفع بهم في اللحظة المناسبة الي تيار الأحداث المنهمر في مرحلتين: احداهما باكرة عندما كانت الراوية رقية لاتزال صبية يافعة قبيل نكبة1967, يقذف لها بحر قريتها بشاب وسيم يلقي عليها تحية عابرة ويسألها عن اسمها, ثم لا يلبث ان يتقدم لخطبتها قبل ان يجتاحهم طوفان النكبة ويشتتهم تنسي ملامحه وخطبته. أما المرحلة الثانية فتجري بعد ثلاثة عقود, وقد استقر بها المقام في صيدا ثم بيروت مع زوجها الطبيب قرب مخيمات صبرا وشاتيلا, حتي تشهد ملاحم الغزو الصهيوني وصراع المقاومة الفلسطينية مع اليهود والكتائب وحلفائهم, كنت احتار في تحديد مصدر المادة الأولية التي اعتمدت عليها الكاتبة حتي وجدتها قد أدرجتها في سياقها الملائم وذوبتها في عشرات المواقف ومئات التفاصيل الانسانية الحميمة, باقتدار فني مدهش, وأشارت اليها بذكاء بعد ما يربو علي مائتي صفحة حيث تقول رقية ما المطلوب مني؟ أنقل مشاعري آنذاك أم مشاعري الآن؟ أم أسجل ما سجله من هم ادري وأقدر مني في مقالات وشهادات وكتب؟ قبل عشرين عاما, اتصلت بي الست بيان نويهض زوجة شفيق الحوت مدير مكتب المنظمة في لبنان, قالت لي انها تجمع شهادات الناجين من المجزرة, أهالي شاتيلا وصبرا والأحياء المتاخمة, أرادت أن اجمعها بمن أعرف منهم ففعلت, استمعت الست بيان الي هنية هنا في بيتي, واستمعت الي عبد واخرين واخريات غيرهما رتبت لقاءها بهم, وبعد عشرين عاما اتصلت بي الست بيان وقالت لي انها انتهت من الكتاب وانه صدر, واخذت عنواني في الاسكندرية وأرسلته لي, وصل الكتاب, فضضت المظروف, كان للكتاب غلاف خارجي رقيق يحيط بغلافه السميك, عليه صورة ملونة لثلاثة قتلي, فتي بالكاد خط شاربه ممدد علي الارض كاملا بملابسه, استقرت رأسه علي كتف قتيل آخر واستقرت علي فخذه الأيسر قدما قتيل ثالث, لم أطق الغلاف نزعته وخبأته في الدرج, بقي الكتاب الضخم بغلافه المقوي الأزرق قابلا للاحتمال لكن ما تفعله الكاتبة في هذه المادة التوثيقية هي تحويل رمادها وأحبارها الي حيوات نابضة زاخرة بالمعني. اقتناص المتخيل: عندما تشرع رضوي عاشور في اقتناص متخيل النكبة بكل ملامحها تمهد لها بألوان زاهية ومشاهد طبيعية بهيجة, ترسم ايقاع الأفراح حتي تبرز في ظلها عتمة النكبة السوداء, فالأشياء تتميز بأضدادها, وكانت صورة الشاب يحيي الذي طلع من البحر وتعرف علي الراوية رقية هي التي تسمح لها بأن تتمثل البحر وهو يفترش العرس شاطئه, يتوسع, الزغاريد والأهازيج وحلقات الدبكة ورائحة الخراف المشوية والمشاعل, تنفلت ردات العتابة والأوف من صدور الرجال, أي والله تنفلت انفلاتا وتحلق, كأنها تصل الي رب العرش فوق أو تطير متجاوزة الجيران في القري القريبة لتؤنس سكان الساحل كله من رأس الناقورة الي رفح, ثم يقبل الفرسان يتبارون في الركض والقص, كل علي ظهر أصيلته, ترجم رمل الشاطئ رجما بحوافرها فينخطف جسمها وقوائمها مقبل وهي تولي, الشاب علي متنها يميل خفيفا للأمام كأنه مثلها يطير, يسرق المشهد قلوبنا, ننسي البحر, وربما يكون البحر مثلنا مأخوذا بالفرجة فينسي نفسه ويستكين.. استرجع المشهد ثم أعود استرجعه علي خلفية صوت الأمواج والأهازيج والزغاريد الآتية في اتجاهنا: سبل عيونه ومد ايده يحنونه/ غزال صغير وكيه أهله يبيعونه يا أمي يا أمي عبيلي مخداتي/ وطلعت م الدار ما ودعت حياتي لكن الدار التي تتحدث عنها لن تشهد أعراسا في هذه الفترة, بل سيكون الرحيل عنها في سلسلة من الهزات المتتالية لصميم بنيانها النفسي والعائلي هو مشهد الخروج الذي يذهل كل مرضعة عما أرضعت, ستصوره الكاتبة القديرة من زوايا عدة قبل أن تركز بؤرة منظورها في حالة الذهول الفاجع الذي أصاب أمها وهي في طريقها الي لبنان في طولكرم والخليل, وفي الطريق الي صيدا, ستكرر أمي بلا كلل ولا انقطاع ان ولديها هربا الي مصر, وأن أبا الصادق زوجها اعتقل مع من اعتقلوا من رجال البلد, ولا تعرف ان كان قد أفرج عنه ولا يدري اين نحن أم انه مازال في الأسر. همست إحدي النساء أن ام الصادق فقدت عقلها, اجابتها الأخري: عجيب غريب, إنها عاقل راشدة فيما عدا موضوع زوجها وأولادها, عادت الأولي تقول: ورب العرش, أنا كذبت عيني وقلت ان قلب الأم أدري وربما اشتبه علينا الأمر ولم يكونوا بين من رأيناهم من القتلي, لولا ان الشباب الذين اخذوهم لحفر المقبرة الجماعية شهدوا ان أبو الصادق وولديه كانوا بين الجثث التي دفنوها لحظة استلاب الوعي وذهاب العقل أبلغ في التعبير عن هول الكارثة وتجسيد وقعها من عشرات الصفحات الوصف المستضني والمضني لمشاهد حشد الضحايا وسوقهم الي حتفهم في لحظات هستيرية ارتكبت فيها العصابات اليهودية أبشع المذابح التي سجلها تاريخ النكبة. ستكون الفتاة الرقيقة رقية هي الرواية التي تحكي كل ذلك بمنظور الأنثي الحساس, وسيكون عليها ان تجاري أمها في خداع الذات حتي تبقي علي كيانها خشية ان يتفتت, وتسر الي أعمامها وأقربائها بأن يجاورها ايضا في لحظات مفعمة بالشجن والوجيعة, وعندما يحرضها ابنها حسن بعد سنوات طويلة من استقرارها في لبنان علي ان تحكي ما شهدته ينفجر في وجدانها هذا التيار اللاهب الشجن العذب والهشاشة المحترقة, قال لها: احك الحكاية, اكتبي ما رأيته وعشته وسمعته وما تفكرين فيه, وإن صعبت الكتابة عليك احك شفاهة وسجلي الكلام, بعدها ننقله علي الورق, هذا مهم يا أمي, أهم ما تتخيلين, كررت: لست بكاتبة, كل حرفة لها أصحابها, لم أكن حتي وأنا تلميذة صغيرة في المدرسة متفوقة في الانشاء يا أمي ما أطلبه منك ليس إنشاء بل شهادة, تذكرين ذلك اليوم الذي طلبت منك فيه تسجيل شهادتك عما حدث في بلدنا, وقلت لك استجمعي التفاصيل واسعدي, مرضت ولم يتح لنا ذلك لأنني بعدها سافرت. ليتني أعرف كيف, ثم ان الحكاية لا تحكي, متشعبة, ثقيلة, كم حربا تتحمل حكاية واحدة, كم مجزرة, ثم كيف اربط الأشياء الصغيرة علي أهميتها بأهوال كبري عشناها. هذا هو الحوار الداخلي للكاتبة الذي يمثل تحديا باهظا تواجه بالكتابة وتبسطه داخلها, كيف تعيد تخليق مئات الحيوات وبعث آلاف اللحظات الهاربة لتحضرها في ذاكرة الكاتبة وهي مشدودة الي مفاصل مصيرية واحداث سجلها التاريخ من السطح فقط, والمطلوب من الابداع ان يجرح سطح التاريخ ليجري الدم في عروقه ويتصل بنهر الحياة الزاخر بتياراته ومكنونه الانساني الدافق, وان يمنح كل ذلك معني كان يفتقده ودلالة لابد ان يجسدها.