علي غلاف كتاب نور العدد13 1999 عن المرأة الفلسطينية: خمسون عاما في مواجهة الاحتلال صورة قديمة لعجوز فلسطينية يغطي رأسها لفاع مطرز ينسدل حتي ركبتيها تشبك يديها المتغضنتين اللتين تتشبثان بمفتاح كبير معلق بانشوطة, تذكرك يدها بيدي جدتك الراحلة فتهم بان تقبلهما. تعلم ان هاتين اليدين غرستا اشجار الزيتون وعصرتا ثماره وكورتا اقراص الكبة وخلطتا الزعتر بالسماق, هي ام الصادق في الطنطورة, لا بل هي ام علي التي تخبز تحت القصف وتوزع الفطير المرشوش بالسكر علي الاطفال بالملجأ في بيروت, او ربما هي وصال التي تطرز الثوب الفلسطيني الفلاحي وتخلص الولدة من جنود الاحتلال في جنين, او رقية الطنطورية التي غيرت سبعة بيوت وتظل تعتني بجنائنها المنزلية وتكتب عن البحر والاعراس وتشير مجرد اشارة الي الكوارث في دفترها الذي اوصاها ابنها حسن بتدوين شهادتها علي صفحاته. كيف صاروا لاجئين ؟ ستحكي لك رقية حكايتهم مع التاريخ والجغرافيا, وما فعله التاريخ بالجغرافيا. ورقية لسان الحال الكاتبة المبدعة رضوي عاشور في راويتها الجديدة الطنطورية الصادرة عن دار الشروق وتحذرنا فيها بانها حكاية غير قابلة للتلخيص 115 ترتدي الواحدة منهن ثلاثة اثواب وتحمل صندوقا حديديا صغيرا تحفظ فيه الاوراق ونصية جبن وتنكة زيت للرحلة, تترك علفا للمواشي وحبا للدجاج يكفيها اسبوعين, كل امرأة منهن ولها شجرة ليمونة او برتقالة او تينه او توتة تركتها في ساحة الدار, وكل امرأة منهن لها مفتاح تربطه حول رقبتها كأنه حبل سري,هو مفتاح الدار, لا تعلم ان الغياب سيطول, لكنها تعلم انها ستعود. تفعل الكلمة اكثر من فعل النار وتستطيع ان تخترق حصارها غسان كنفاني , لذلك تكتب رضوي عاشور عن ثقافة الثأر والشرف فتبدع نصوصا تنتزع النصر بالتذكر. عندما تصيح الهامة روح القتيل عند العرب في الجاهلية اسقوني, اسقوني, حتي يأخذوا بثأره اطياف185 يتحقق الثأر في التذكر والتوثيق والاسترجاع تختلط رائحة البحر والزنبق والدماء, يتناسخ كيس الخيش ويشير دوما الي احد الرجال الذين يتربص بهم جنود الاحتلال فيقودهم الي هلاكهم, تتجمع جثامين الاحباء بالمئات علي الكوم غارقة في دمائها, يتحدث القاتل العبرية او العربية ويظل القتل واحدا, يراود الناجين حلم الجيوش العربية وكابوس الكتائب والفصائل يحمل احفادهم جنسيات مختلفة تتوالي النكبات والمجازر والتشريد والترحيل وتتكاثر المخيمات التي تختنق بلاجئيها فيتجرع الجميع نفس التاريخ. في رواية الطنطورية لا تحكي رضوي عاشور سيرة رقية فحسب بل تحقق بالسرد نصرا مبينا فتحسم صراعا علي ارض النص وفضائه. هي فلسطين وليست بالستاين او ازرائيل! تعلم رضوي ان وأد روح الراوية قتل لروايتها, ومحاولة لاسكاتها لكي لا تروي حكايتها فتستحضر لها في شكل تناص غزلي عف رموز الحكاية والارض ليكونوا عرابين لحكايتها: اميل حبيبي وغسان كنفاني وناجي العلي, بل وفيروز والشيخ امام وغيرهم. وكذلك تستحضر رقية بغريزتها: المقاومة مبدأ محمود درويش في هذه الحياة رغم كل شيء, ما يستحق الحياة رغم تتابع النكسات تستبدل رضوي عاشور بالدمار العمار, اذا هدوا البيت ستشيد من احجاره حصنا. اذا حرفوا الحكاية ستكتب بالسرد والوثائق, نصا اصليا عصيا علي المحو يحمل ابو الامين ورقا مقوي لحفيده حسن ويبسطه امامه ويأمره ارسم الخريطة يا ولد يملي عليه اسماء القري والولد ساجدا علي الارض يرسم ما يقوله الشيخ في خريطة كبيرة بالالوان. تكتمل الخريطة فيوصيه الجد: احفظها يا حسن يحلم عبد بتكوين شبكة من المضارين والقانونيين لاقامة دعاوي علي مجرمي الحرب, يحمي مركز الابحاث من يسترد ذاكرة الوطن المنهوبة, يكتب حسن رواية نيوجرسي عن غزو لبنان, يحتضن صادق الثري الاسر الفلسطينية المحتاجة, وتغزل رقية السترات الصوفية لاطفال المخيم, ليس في ثقافتها ان تنكث غزلها, هو ملجؤها الذي تحتمي به هي متوالية من خطوط دفاع تشيدها رضوي عاشور عبر السرد لتشير الينا.. تقدموا: ها هي فلسطين ! يستدفيء النص ويأنس بنصوص اخري لرضوي عاشور, فيذكرنا الشاب يحيي, ابن قرية عين غزال الذي خرج من البحر لرقية, بالمرأة العارية في بداية ثلاثية غرناطة, التي كساها جعفر الوراق بملحفه الصوفي فتركته وواصلت طريقها. حملت الشاحنة عبد الي الميناء فعاد وقرر ان يبقي في بيروت مكررا خاتمة غرناطة عندما ادار علي ظهره للسفينة المغادرة وتوغل في الارض اما رقية فهي مثل الناظر في قطعة من اوروبا تقرأ الصحف والمقص في يدها وتتابع صور الشباب والسيدات في مواجهة جنود الاحتلال عبر نشرات الاخبار, تنظر وتنتظر. في الصفحة رقم48 من رواية الطنطورية لاحظ الرمز الرقمي الدال يعلن بن جوريون في حفل بتل ابيب تحول فلسطين الي دولة لليهود اسمها اسرائيل, وفي بداية ثلثها الاخير يتحول العرس الفسطيني بالمطعم الصغير ببيريوس باليونان الي لم للشمل, وفي الفصل الختامي تحول رضوي عاشور الطقس الجنائزي للشتات في مشهد المسجد الجامع برواية المتشائل, لاميل حبيبي الي احتفالية عودة. تري رقية عبر السلك الشائك حفيدتها وسميتها المولودة في فلسطين.. تهديها مفتاح الدار. يعود بها الباص الي صور, في الصباح ستزور مخيم عين الحلوة لتطمئن علي ناجي الطفل الرسام الذي يبيع الكعك علي الرصيف مثل طفل غسان كنفاني. لن يختنق احد في الخزان, بعد الان.. برعمت الدالية البنية اليابسة, اصبح لها راس اخضر كان يشق التراب بعنفوان له صوت. حكت السيدة راء الطنطورية رقية سيرتها عبر سبعة بيوت منذ الترحيل من اول دار لها في الطنطورة الي المقر في اخر دار في صيدا, جمعتها من الاف النتف المتشابكة من اهوال طاغية فرضت نفسها ومباهج تسللت علي استحياء لتقول ما يستعصي علي الكلام بعد سنوات سيستهل شاعر مصري فلسطيني شاب قصيدته الطويلة عن غزو العراق بفعل امر: كفوا لسان المراثي.. الطنطورية رواية رضوي عاشور استجابة سردية قوية لهذا الامر تساعدنا علي الاكتشاف, تعرفنا تاريخنا ومن نحن؟ وماذا نريد؟ لاننا عندما نعرف نستطيع 337.