بينما أخذت حفيدتي إطعام أزواج الحمام بالحبوب التي في كف يدها الصغيرة, وبينما كنت أقرأ آخر آراء كسينجر فيلسوف السياسة العجوز المقترب من التسعين, بين هذا وذاك تدافعت مشاهد قديمة في الذاكرة مشاهد حمامات كانت تلتقط الحبوب من كف فنان عظيم رحل عنا منذ نهاية الستينيات وهو كمال خليفة. هذا الذي تآكلت رئتاه بفعل مرض السل, لكنه كان قادرا علي أن يملأ قلب كل من يعرفه بمشاعر الرفض لأي سحابة من اليأس. وكانت رؤية أزواج الحمام التي تأكل من كف يده يدفع أسئلة كثيرة الي خيالي, فكيف لهذا الفنان أن يتجاوز كل خطوط حياته القاسية ثم يقتطع قروشا من أجل شراء حبوب للحمام الذي يربيه في أقفاص تزين شباك حجرتين فقيرتين للغاية, أعلي بيت من أربعة أدوار. وفي المسافة الفاصلة بين كل دور وآخر توجد درجة أو درجتان من هذا السلم وهي متآكلة, إلي ان نصل الي الدرجات الأخيرة التي تصل بنا الي حيث سطح المنزل وحيث توجد حجرتا سكن الفنان, لنجد أربع درجات مكانها فارغ. ومطلوب القفز عليها لنصل بأمان الي حيث نلقاه. ومازلت أتعجب حتي كتابة هذه السطور كيف لم يسقط اي منا نحن أبناء ذلك الجيل حين كنا نصعد الي لقاه, رغم وجود هذا الفراغ الذي يبدو كفم مفتوح لالتهام حياة اي كائن لايجيد القفز فوق مكان الدرجات الأربع الخالية أعلي هذا السلم! وكان كمال يضحك إن عشت فوق الأربعين فتلك معجزة. وكنت أرفض منه أن ينطق مثل هذا الكلام, فهو صانع أمل كبير, لا في حياتي وحدي ولكن في حياة جيلي بأكمله, فهناك التقيت بعبدالرحمن الأبنودي وهو يتلقي رسم غلاف ديوانه الأول الأرض والعيال, وهناك التقيت بالفنان عدلي رزق الله الذي أدعو له بالشفاء من كل قلبي فهو عاشق الألوان المائية والتي قدس من خلالها المرأة والبيت والنخلة. وهناك التقيت عزة فهمي التي صار اسمها الآن علامة مصرية بارزة في صناعة وصياغة الحلي, وهناك التقيت محيي الدين اللباد رسام الكاريكاتير الذي لانظير له, وهو المتمرد الدارس لفن تدريب العين علي رؤية بعمق. والي تلك الحجرتين صعدت اكثر من مرة مع العاشق لفن الحياة أستاذنا الكبير كامل زهيري الذي هضمت أقدامه شوارع القاهرة بكل أحيائها وتاريخها, وأضاءت ذاكرته بكل تفاصيل مامر بهذه المدينة من محن وانكسارات وانتصارات. وكان كامل زهيري يعلم عمق صداقتي بكمال خليفة فكان يقول لي هيا نغادر الضجيج الذي حولنا لنعيش لحظات مع هذا المثال المصور لنهرب من مشاعر الضجر وسط لهيب يوليو. وحين وصلنا الي حيث يسكن الفنان, وجدناه يطعم الحمام بيديه. وبعد التحية وإعداد أكواب القهوة الصغيرة علي سبرتاية من النحاس, توقف كامل زهيري امام قصاصة من جريدة الأهرام معلقة علي حامل الرسم في غرفة كمال خليفة, كانت القصاصة تحمل صورة قائد شرطة سايجون وهو يصوب مسدسه الي رأس مقاتل فيتنامي مكبل اليدين ويمسك به اثنان من الجنود, وعلا صوت كمال خليفة سائلا كلا منا من الخائف؟ المتأهب للقتل ام المتأهب للموت؟ ودققنا النظر الي الصورة من جديد لنجد ان الخائف هو قائد شرطة سايجون, وهنا قال كمال خليفة ستظل هذه الصورة علامة بارزة من علامات القرن العشرين وكأنه كان يتنبأ بما حدث فعلا حين تم اختيار هذه الصورة كواحدة من مائة صورة تعبر عن مآسي القرن العشرين, وقد حدث هذا بعد رحيل كمال خليفة باثنين وثلاثين عاما وحاولت البشرية ان ترصد احزانها في اختيار صور فوتوجرافية تعبر عما حدث من مجازر. تذكرت كل تلك المشاهد وعيوني موزعة بين رؤية الحمام الذي يتناول طعامه من يد حفيدتي وبين قراءة نداء كسينجر الموجه منه الي رئيس الولاياتالمتحدة باراك اوباما بان يكون واقعيا وألا يبحث عن نصر عسكري في أفغانستان. وطبعا تجاهل كسينجر ان ينابيع الإرهاب الموجودة في أفغانستان او العراق لن تجف الا بعد ان تجد الولاياتالمتحدة سبيلا لنظرة عادلة للقضية المركزية في صناعة السلام في الشرق الأوسط وهي قضية فلسطين. فكرت وأنا اتابع الحمامات التي تلتقط الحبوب من الكف الصغيرة, هل هناك من يوقظ في الضمير العالمي حقيقة ان فلسطين لن تموت مهما ازدادت رصاصات الموت المجاني علي رءوس البشر هناك؟ وحتما ستحتفظ الصور التي ترصد احداث القرن الحادي والعشرين ذلك الرعب المدجج بالأسلحة وهو يقتل من الفلسطينيين العديد من البشر, وسيكون هناك من يسأل مثلما سأل كمال خليفة من الخائف ؟ المتأهب للقتل ام المتأهب للموت؟.