لعل من حق لبنان كوطن وكشعب أن يزهو بسفير مثل السفير خالد زيادة. فهو مثقف ومؤرخ تتسم كتابته ليس بمجرد الدبلوماسية وإنما أيضا بالدهاء. وهو مؤرخ يستند إلي التعريف الإغريقي لعلم التاريخ والذي يقول إن التاريخ هو علم الكتابة عن الأشياء الجديرة بالمعرفة التي وقعت في الماضي فهو يدع جانبا كل تفاصيل لاقيمة معرفية لها ويكف في كل لحظة عن الاستطراد الذي لايضيف معرفة, ولايقدم رأيا. لكنه إذ يستجمع كل وأتجاسر فأقول كل ماهو ضروري للمعرفة التاريخية ومايكون جديرا بها فإنه يستمتع بحس ووعي الحداثة المعرفية لفهم دور علم التاريخ كجسر يؤدي, بل ويجب أن يؤدي إلي فهم الحاضر, لكنه لايقول ذلك ولا حتي همسا وإنما يقتادك بدهاء محمود حتي يضعك تحت ضوءين معا يتقاسمانك دون أي تنازع بينهما, ضوء الماضي وضوء الحاضر. فتصبح القراءة متعة وعلما وفهما وإيعازا. وبين أيدينا كتابان مهمان لخالد زيادة هما بعض مما أثري به المكتبة العربية. الخسيس والنفيس, الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية. كاتب السلطان حرفة الفقهاء والمثقفين سنقرأهما معا فهما يكملان بعضهما البعض كان الكاتب واحدا من أهم أركان الدولة, فهو قريب إلي الحاكم وهو رغم افتقاد أدوات الإعلام إلا أنه كان يطن في أذن السلطان مؤكدا أنه سلطان السلاطين وأنه الأفضل والأرجح عقلا والأسمي منزلة. والملهم, والقادر, والمحبوب من كل الناس, حتي يصدقة الحاكم فيحكم في الناس علي مثال ماأوحي إليه كاتبه. وكان الكتاب يبدعون لأنفسهم خطوطا لايستطيع غيرهم قراءتها ليظل رابطهم بالحاكم محكما ودون تداخل من أحد. ونقرأ اقتباسات أوردها المؤلف إن الكاتب هو قبل كل شيء محتال يستعمل الكتابات التي لا يمكن لغيره أن يفك رموزها ويؤثر علي الأحداث بواسطة المكتوب وبواسطة الحيلةلم يمنع من وجود علماء أعلام حافظوا علي مكانتهم ومكانه الفقة والعلم فإبن إياس في كتابه بدائع الزهور يتحدث عن شجاعة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز والعالم عز الدين بن عبد السلام ويقول إنه بعد وفاته قال الملك الظاهرمااستقر ملكي إلا بوفاة عز الدين. لكن الحقيقة التاريخية توضح أن الطرف الثالث في المعادلة وهو السيفية كان كثيرا ما يزداد نفوذه خاصة إذا ماتصارع الطرفان الآخر فطغي سلطانهم علي كل سلطان آخر. ذلك أنه المسئول عن حماية الأمن والنظام. ورويدا اتسع دور صاحب السيف وخاصة في فترات وقوع الاضطراب أو توقع وقوعه. وهكذا يجد المجتمع نفسه وقد تراجع موقف أهل الشرع بعض الشيء, وتلاشي نفوذ الكتاب كلما تضاعف نفاقهم للحاكم, فتزايد نفوذ السيفية. ... ويبقي أن نعود بالفضل إلي صاحبه السفير خالد زيادة, الذي قال كل شيء دون أن يخدش أحدا بأي حرف, أو يشير إلي ماهو غير التأريخ عما كان في الماضي ولو بأقل إيماءة ولكنه رغم ذلك الصمت الظاهر قال كل شيء. المزيد من مقالات د. رفعت السعيد