منذ الزمان القديم وضع الإغريق تعريفا لعلم التاريخ فقالوا إن أستوريا[ أي التاريخ] هي علم البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة التي وقعت في الماضي, وترك هذا التعريف الغامض أثره علي الكتابة التاريخية حتي يومنا. فالجدير بالمعرفة من الأحداث هو وجهة نظر تختلف من جماعة أو طائفة وأخري, أو حتي من فرد وآخر. والكتابة التاريخية مباحة أو بالدقة مستباحة, تماما كالفتاوي في الدين, يطرقها أو يطرقنا بها من يعلم ومن لا يعلم, ومن يفعلها بحسن نية وبسوء نية متعمد, والغريب في الأمر إن استخدام التاريخ هو تماما كالفتوي إن جاء زائفا في أي منهما فإنه يصب وياللدهشة في ذات الخانة, خانة تفتيت الوحدة الوطنية. وفيما يخص الكتابة التاريخية فإنها إذ تتفرق عبر وجهات نظر أو رؤي مختلفة تتحول إلي أداة لخلق أكثر من هوية وأكثر من ضمير وطني وأكثر من تراث فكري لأفراد يقيمون في وطن واحد يفترض أن يكون موحدا ليس فقط بالأرض والحدود وإنما بالهوية والانتماء, يتحول الفرد إلي مواطن. لكننا ومنذ زمن لا نمتلك لا رؤية واحدة لتاريخنا ولا حتي نمتلك معرفة حقيقية أو نصف حقيقية بهذا التاريخ. وبهذا يبقي الفرد فردا, ويعجز النسيج الواحد عن احتوائه ليتحول به إلي مواطن. ومصر التي عرفت الوطن الموحد قبل الجميع. وربط النهر بين أعضائها فوحدها ومكن المصري من أن ينساب عبر النهر دون أية حواجز والتي تماسكت هويتها قرونا إثر قرون تتحول علي أيدينا إلي أكثر من رؤية وأكثر من انتماء وأكثر من ضمير وطني. وأصبح ممكنا الآن أن نقرأ كتابات تاريخية تستند إلي الانتقاء القائم علي التحيز الديني أو السياسي أو الفكري ويتجلي ذلك حتي في المفردات التي يصكها البعض لتعبر عن وجدان يتميز عن وجدان الآخرين في الوطن ولنتأمل عبارات وكلمات تمرق وكأنها تأتي عفوا, وما هي كذلك. غزو العرب لمصر ويقابلها فتح العرب لمصر ويقابلهما دخول العرب لمصر وهكذا. ومن ذات المنطلق نستخدم عبارات مختلفة قد تبدو ظاهريا أنها متماثلة أو مترادفات لكنها في واقع الأمر تفتيت يأتي أملس ويتبدي وكأنه ينساب بالمصادفة لكن كل منها يحتفظ في خبيئته بمعان متمايزة أو بالدقة متناقضة مثلا الوحدة الوطنية الفتنة الطائفية, عنصري الأمة الأقلية الدينية المواطنة. وكل واحد من هذه الاستخدامات يحمل صاحبه وجدانا مختلفا وأخشي أن أقول هوية مختلفة. وأعتقد أن لكتابة التاريخ أثرا في ذلك. فعلي عائق علم التاريخ يقع عبء توحيد المفردات ليس عبر استخدام قسري أو تآمري بين الأطراف المختلفة, وإنما أن تأتي عبر كتابة صافية وخالية من إندساس العاطفة الدينية أو التمييز الفكري أو السياسي أو الثقافي علي مدي الزمان ودون رؤية ذاتية ملطخة بالتمييز ضد طرف آخر. ويجب أن يصطف المكون الحضاري المصري دون استبعاد لفترة أو حقبة بسبب من رفض الآخر أو باعتقاد خاطئ أن التاريخ يجب يكون تاريخ طائفة هي التي فعلت كل شئ حسن, وان يخفي تاريخ فترة أخري لأنها كما قال الإغريق ليست جديرة بالمعرفة. ويتحول الأمر إلي السياسة التي تعبث هي أيضا بالكتابة التاريخية فتزعزع أركان مصداقيتها, فثورة يوليو لا تعترف بقدر كاف بثورة1919 بل تلومها لوما جافا في الميثاق تماما كما فعل أعوان الخديوي بثورة عرابي التي هوجمت شعرا ونثرا علي أساس طبقي صارخ. وحتي كتب التاريخ الدراسية أمرت في الزمن الخديوي بسبب العرابيين, وأمرت في زمن يوليو بتجاهل شبه كامل لما كان في ثور1919 وأمرت في زمن الوحدة مع سوريا بتجاهل القسم الأكبر من تاريخ مصر, وأمر مؤرخون بتغيير أسماء كتبهم لكي لا يأتي فيها إسم مصر. وأمرت كل الكتب وكل الصحف بأن تنسي أن محمد نجيب كان رئيسا لمصر. ولأنه كما تدين تدان فقد تعامل البعض عن تاريخ يوليو بذات المعايير المغلوطة. ولان الهوية هي نسيج يتحتم أن يكون متكاملا ومتواصلا ومتناسقا بين جميع أبناء الوطن بحيث يتعلمون ويتنفسون ويعيشون معا الرؤية الصافية لتاريخ مصر كحركة شعب وعناصر حضارية مادية ومعنوية وثقافية وفكرية ودينية ولغوية واقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة معا في ضفيرة واحدة متشابكة بحيث لا يمكن تفكيكها, فإننا إذ نفتقد ذلك لا نلبث أن نفقد الهوية الموحدة والتي يتحول بها الفرد الرافض للآخر علي أرض وطنه, إلي مواطن يعيش مع الآخر ذات الحياة وذات الفكر وذات الهوية وذات المصلحة. ولأن المصريين يعانون معا وربما يساء إليهم معا ويمتلكون في أحيان كثيرة ذات الطموح إلي حياة أفضل, فلماذا لا يتكاتفون معا من أجل المصلحة المشتركة علي أرض وطنهم الواحد, ولماذا تتلاشي فيما بينهم قيم الهوية الوطنية المشتركة ؟ والإجابة معلومة ومعروفة وقلناها ألف ألف مرة.. وربما تكون الكتابة التاريخية هي أيضا مسئولة مسئولية خطيرة عن تفكيك ضفيرة الوجدان المصري المشتركة. أن تاريخنا يجب أن يكتب علي أساس من قاعدة الحضارة والثقافة والوعي والهم المشترك. وليس علي أساس القص واللصق والاستبعاد المتعمد للآخر. ولأن تدريس التاريخ لم يعد مرغوبا فيه في منظومتنا التعليمية الرسمية, فالذين يدرسون في مدارس الحكومة لا يتلقون إلا فتاتا ضئيلا من المعرفة بتاريخ بلادهم. والذين يدرسون في مدارس الصفوة والأثرياء يدرسون تاريخ أوروبا والثورة الفرنسية وليس الثورة العرابية أو ثورة1919. فإن الكتابة التاريخية غير المسئولة والمنحازة والقائمة علي أساس قص ولصق وليس قول الحقيقة الكاملة.. هي المصدر المتبقي والذي يهدم هويتنا. وأخيرا يقول المؤرخ ميشيلية أن علم التاريخ يتكون من نصفين نصف جميل هو الروايات والحكايات, ونصف قبيح هو الحقيقة أما نحن فأخشي أن أكثر المعرفة التاريخية للفرد المصري ولا أقول المواطن المصري لا هي جميلة ولا قبيحة وإنما هي معول هدم للهوية. فمتي يا وزير التعليم نستعيد الهوية المشتركة عبر كتابة تاريخية علمية حقيقية مصرية وليست طائفية. وعبر مدرسة مصرية المذاق والهوية ؟