هم مصريون حتي النخاع ولكن لانعرف عنهم شيئا... فهم من تصدق عليهم مقولة الكاتب الكبير نجيب محفوظ...وأفة حارتنا النسيان. فحارتنا المصرية قد تنسي وجوها تغيب في غياهب النسيان ولا عجب في هذا ولا عتاب. فالذاكرة التي تحمل الكثير من الاشخاص والحكايات قد يسقط منها دون عمد بعض هؤلاء الذين لم يسعدهم الحظ بالدخول في دائرة التذكر والاهتمام. وفي حالة د. محمد كمال إسماعيل المعماري المصري القدير يبدو أن الظروف التي عاندته هي نفسها التي تفسح له الطريق لكي نتذكره اليوم. والرجل لمن لا يعرفه هو مصمم مجمع التحرير الذي قفز إلي بؤرة الاحداث في الايام القليلة الماضية. وهو أيضا مصمم دار القضاء العالي والتوسعة الكبري للحرم النبوي الشريف والذي يعتبر العمل الاهم في حياته. وبرغم كل هذه الانجازات لا يبدو محمد كمال إسماعيل بعيدا عن أبناء جيله, فقد ولد في عام1908, وهو زمن سجل أعلي درجات الليبرالية المصرية. وهي ليبرالية من نوع خاص حققتها الحياة في بر مصر التي كانت في حقيقة الامر حياة منفتحة فيها قبول للوافد الذي يريد أن ينضم إلي المجتمع المصري طالما حافظ علي تقاليده وقواعده وفيها التزام ديني لا يصل إلي حد الشطط أو التطرف, بل هو التزم بالجوهر الديني وبمبدأ الدين المعاملة. فالدين في مصر وفي كل الازمان كان يعتبر جيبا من الجيوب الداخلية للحضارة والتمدن. وقد كانت ظروف الاحتلال مهيأة لتفعيل مثل هذه الليبرالية والانسجام المصري مع الذات. فكانت حتي المدارس الموجودة في محافظات مصر لا تقل أهمية عن مدارس أخري قاهرية وسكندرية. فتلقي محمد كمال إسماعيل المبادئ الاولية في مدرسة مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية ثم انتقل بعدها إلي مدارس الاسكندرية ثم العباسية بالقاهرة ليلتحق وفي سن صغيرة بجامعة فؤاد الاول ويتخرج بعد سنوات مهندسا قديرا. ويقرر من بعدها أن يسافر إلي أوروبا ويحصل أكثر من مرة علي لقب دكتور في الهندسة والانشاءات ليعود وبكامل رغبته إلي مصر التي كانت وقتها تشجع القدرات والمواهب وليصبح مديرا لمصلحة المباني الاميرية. وبرغم أن المنصب وفي كل التقديرات يعد منصبا رفيعا في الدولة المصرية إلا أن قدرة محمد كمال إسماعيل وزملائه لم تكن تقف عند حدود المنصب أو التحقق المادي, فلم يكن المصريون في هذا الزمن المنفتح يرون في الحصول علي قدر مقنع من التعليم والتعلم الا طريقا يفتحونه أمام أنفسهم وبلادهم. فلم يكونوا مثل أحفادهم الذين جنحوا إلي اعتلاء أولي درجات السلم ثم الاستراحة بعد هذا الوصول المقنع لهم. فيتركوا الحياة تسير بهم بلا أهداف أخري. ولهذا قدم محمد كمال إسماعيل مجموعة من التصميمات لمنشآت مهمة منها دار القضاء العالي ومجمع التحرير بالاضافة إلي مجموعة من المباني الأخري. ولم يكتف بهذا بل راح يبحث عن تقديم رؤيته الخاصة للعمارة الاسلامية في موسوعة مساجد مصر في أربعة مجلدات تابع خلالها شرحه و تفسيره وتقديمه للمساجد المصرية الموجودة في كل أنحاء مصر والتي تختلف في تفاصيلها وإن كانت في النهاية لا تخرج عن شروح للصانع والمصمم المصري الذي استطاع علي مر الازمان أن يأتي بتخريجات مصرية تتناسب مع ذوق النخبة الحاكمة وأولاد البلد الذين يتقاسمون الشوارع والحارات. وهكذا فتحت هذه الموسوعة الابواب أمام عمل آخر للمهندس المصري لم تكن في الحسبان وهي الاشراف علي أعمال توسعة الحرمين الشريفين المكي والنبوي ليكون حلقة في سلسلة طويلة من المهندسين المصريين الذين شاركوا في هذا العمل منذعصر العادل عمر بن عبد العزيز. فكما يقول الكاتب سليمان الحكيم أكد المؤرخ البلاذري أن الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك طلب من عامله علي المدينة عمر بن عبدالعزيز إعادة بناء المسجد النبوي وأن يبعث إليه بالاموال ومواد البناء اللازمة وثمانين صانعا من القبط من أهل مصر لما يتميز به هؤلاء من مهارة في فنون العمارة والبناء. وقد جري بالفعل العديد من محاولات التوسعة التي تفاعل فيها المصريون مع هذا البناء الفخيم الذي يحمل روحا لها طبيعة خاصة حتي أنه يمكننا أن نرجع أيضا إلي ما حققته الدكتورة سعاد ماهر في كتابها القيم مساجد في السيرة النبوية من أنه في زمن التوسعات الكبري أصدر الملك عبد العزيز آل سعود بيانا يبشر فيه بعزمه علي توسعة المسجد النبوي فكان عدد المهندسين الذين عملوا بالحرم الشريف اثني عشر مصريا وواحدا من سوريا وواحدا من باكستان. وبعدها وعندما بدأمحمد كمال إسماعيل العمل في عهد الملك فهد كان قد بلغ الخامسة والسبعين من العمر فقرر وبخبرته الاستعانة بالخريطة المصورة التي التقطت من الطائرة وتمثل المدينةالمنورة بكل تفاصيلها ونظر إلي المسألة بمنطق يفرض أن علم الهندسة علم تجاوب مع المكان, ولم ير في أية إضافة الا توظيفا لعمل حتي في أدق الزخارف. ولهذا لم يكن مستغربا أستعانته بفكرة المظلات حول الحرم كتلك المظلات التي رأها في ألمانيا. فقد أثبت بتخطيط واع وصحيح يستوعب عددا لا حصر له من الزيادة في عدد المصلين أنه يشبه عباقرة الهندسة المصريين الذين بنوا الاهرامات والكنائس والمساجد والقناطر والسدود. وفي النهاية يذكرنا هذا العمل برجل رحل وقد اقترب عمره من المائة بعد أن قال كلمته وذهب... ليتذكره المصريون وهم يزورون المسجد النبوي وليتذكره الشباب الذي يريد أن يقدم لبلاده معني جديدا.. فتذكروا الآباء وابدأوا من حيث انتهوا. فهم رجال جديرون بالتذكر ومنهم هذا الرجل الذي لولا الفضائيات العربية ومقالات صلاح منتصر ود. علي رأفت لها عرفه أحد.