طاف عيسي بعينيه في المكان.. لاحظ الفقراء الذين لا يستطيعون شراء الأضحية ولا تقديم القرابين.. لاحظ كيف يعاملهم الكهنة ويهشونهم كالذباب.. فكر عيسي بينه وبين نفسه.. لماذا يحرقون الحيوانات ويذهب لحمها دخانا في الهواء,وهناك آلاف الفقراء يموتون جوعا خارج المذبح؟! ولماذا يجب علي الفقراء أن يستدينوا لينفقوا نقودهم في شراء حيوانات الذبيحة؟ ولماذا لا تصلح إلا الذبائح التي يربيها الكهنة؟ وماذا يفعل الكهنة بهذه النقود؟ وأخيرا.. أين مكان الفقراء في المعبد؟! وانصرف عيسي من المعبد وخرج من المدينة كلها الي الجبل.. كان صدره يشتعل بغيرة مقدسة علي الحق, وكان وجهه يزداد شحوبا ونقاء وحزنا علي امتلاء الدنيا بالشرور.. ووقف عيسي فوق تلال الناصرة وصف قدميه وبدأ يصلي.. انحدرت دموعه من عينيه الي خديه الي الأرض.. طالت وقفته واشتد بكاؤه, وفي هذه الليلة المباركة قبض من الأرض روحا نبيين كريمين هما: يحيي وزكريا.. قتل الاثنان بيد السلطة الحاكمة. نقصت الأرض كثيرا من الخير حين قبضا.. وفي الليلة نفسها نزل الوحي علي عيسي بن مريم, وصدر له أمر الله تعالي أن يبدأ دعوته الي ملكوت السماء. انتهي الأمر, وأغلق عيسي بن مريم الصفحة الناعمة من حياته.. صفحة التأمل والعبادة, وبدأت رحلته الشاقة المملوءة بالألم.. بدأت رحلته للدعوة الي الله.. بدأ دعوته الي قيام مملكة تقوم علي التواضع والحب.. الي خلاص الروح.. الي الإيمان بقيامة الأموات ووجود يوم يحاسب فيه البشر عما فعلوا.. إن الشريعة الموسوية تنص علي القصاص.. من ضربك علي خدك الأيمن فأضربه علي خده الأيمن.. كيف كان اليهود يطبقون شريعة القصاص؟ اذا كان المضروب قادرا, نسف بيت الضارب ولم يكتف بضربه علي خده الأيمن, واذا كان غير قادر, ضربه علي خده الأيمن وامتلأ قلبه بالحقد لأنه لم يدمر بيته. كانت الكراهية هي المرفأ الذي رست فيه شريعة موسي, برغم أنه كان رجلا من رجال الحب الإلهي الكبار, وها هي شريعته ينتهي بها الأمر علي أيدي القلوب الميتة الي موانئ الحقد.. كيف يتصرف عيسي إزاء هذا كله؟