علي مدار سنوات مضت كنت دائما ما أطرح علي الزملاء والأصدقاء سؤالا مفاده: في حال تعرض هذا الوطن لخطر خارجي, هل يمكن لهذا الجيل من شباب بنطلونات الجينز الساقط عن الخصر, ومن يستمعون لتامر حسني وغيره من مطربي هذا العصر أن يهبوا للدفاع عنه؟! كانت الإجابات دائما ما تنتهي لنتيجة واحدة, ألا وهي الصمت الذي يشوبه الشك والقلق وخاصة أن غالبية المجتمعين كانوا ممن اقتربوا من الخمسين من العمر أو تخطوها. يوم25 يناير حرصت علي الوجود في ميدان التحرير فكأن ما رأيته وسمعته وأحسسته وقد أطلق صيحة اخترقت جدار صمت جيلي, وقطعت شكه وهدأت من روع قلقه علي جيل الأبناء, الذين خرجوا ليحملوا قضية مصر علي أكتافهم وروحها ترفرف في صدورهم إلي ميدان التحرير. مساء ذلك اليوم وبعد ساعات قضيتها وسط هذا المحيط من الحب الهادر كنت ضيفا في أحد البرامج في التليفزيون المصري للتعليق علي صحافة اليوم التالي فوجئت بما عرض مما ورد في صحافة الغد وقد خلا من أي إشارة إلي ما يحدث في الميدان, فرفضت التعليق وأصررت علي ألا أتحد ث إلا عما رأيته من نبل وتحضر ورقي ومشروعية المقاصد لهذه الجموع في وسط المدينة. واختتمت بالتمني علي سيادة الرئيس أن يضع أذنه علي صدور هؤلاء الشباب لكي يضبط سياسة الدولة علي دقات قلوبهم التي يصر خ كل منها بمطلب عادل بداية من حل البرلمان المزور, وتأسيس جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد يليق بمصر في القرن ال21 وإزاحة جماعات المنتفعين الذين يسيرون أعمال كل من البرلمان والوزارة وغيرها من المطالب التي لو كانت تحققت منذ20 عاما فقط لكانت مصر بحق عملاقا في جميع أقاليمها الشرق أوسطية والعربية والأفريقية تمنيت علي الدولة علي هواء التليفزيون الرسمي ألا تتعامل مع القضية السياسية المشروعة لهؤلاء الشباب تعاملا أمنيا: فالسياسة لا تتصدي لها سوي السياسة وأربابها, وأن إلقاء المسئولية علي عاتق الأمن لن يظلم الشباب فقط, وإنما سيظلم الأمن ذاته. وللأسف فإن القائمين علي الحكومة صموا آذانهم عن ذلك الند اء لكي تتداعي الأحداث علي ما جرت عليه بشكل بدا حتي الآن كسلسلة من التفجيرات النووية التي أسفرت عن سقوط أرواح غالية من هؤلاء الشباب, وامتدت لقطاعات أخري من المجتمع في الوقت ذاته, دارت آلة الإعلام القومي وخاصة المرئي منه والمسموع لكي تشكك في نبل مقاصد هؤلاء الشباب الذين نجحوا في خلال ساعات من أن يكونوا بمثابة المغناطيس الهائل الذي اجتذب قطاعات عمرية وفئوية عد يدة غير عابئين بأسلحة الإعلام ثقيلة العيار محققين كل ساعة تقدما, حتي بدا ميدان التحرير وكأن أطرافه امتدت لكي تسع الوطن كله وفي الوقت ذاته, أحس ملايين المصريين بأن وسط القاهرة تحول إلي مكة وأن ميدان التحرير بدا وكأنه عرفات وبأن الجماهير المتدفقة عليهما جاءوا طالبين الحج كي يولدوا من جديد متطهرين من آثام الصمت علي الخطأ. وإذا كانت زيارة القدس أحد الطقوس المقدسة للأخوة المسيحيين, وإذا ما كان الحج هو ركن من أركان الإسلام, وطالما أن الحج عرفة فإن المتأمل لمشهد ميدان التحرير وقد غص بمن فيه, سيبدو له المشهد وكأن المواطنة يجب أن يتم تعميدها بالحج لوسط البلد والوقوف بالتحرير فسلام علي شباب مصر الذين خيبوا ظنون جيل يقتحم الخمسين من العمر.