منذ عقود مضت انبهر جمهور النبهاء في العديد من أنحاء العالم, وكذا في مصرنا المحروسة بفكرة نهاية التاريخ التي وفدت إلينا من سواحل أمريكا, تصور النبهاء ان التاريخ بالفعل قد انتهي واننا دخلنا عصر الجمود, عصر هيمنة السوقية إلي أبد الآبدين. ثم توالت الأحداث التي زلزلت هذا الركود وفدت إلينا هذه المرة من عالم الجنوب حسب المصطلح المعمول به خاصة آسيا وأمريكا اللاتينية ومن دوائر الشرق الحضاري في المقام الأول, وقد بلغ الأمر في السنوات الأخيرة ان الإجماع كاد ينعقد حول مقولة ان مركز ثقل العالم الجديد انتقل من الغرب إلي الشرق ومن الشمال إلي الجنوب. ثم تطورت الأحداث علي شكل تحركات جماهيرية واسعة علي امتداد عالمنا العربي ومصر في قلبه بطبيعة الأمر وكأن دائرة الركود حول شعار مكانك سر بدأت تتفكك أين نهاية التاريخ أمام مرحلة صحوة الأمم والشعوب التي نحياها علي امتداد العالم. أين نهاية التاريخ أمام صحوة شباب مصر والتوجه إلي صياغة مستقبل الوطن علي أساس العروة الوثقي التي لا تنفصم بين شعب مصر وجيش الوطن؟ وفجأة وبأسلوب غير مقبول نري الدولة الأمريكية التي تكرر منذ عقود معاني الصداقة والمحبة تجاه مصرنا المحروسة تستعمل لهجة الأمر ومن ورائها الاتحاد الأوروبي حرصا علي طمأنة الدولة الصهيونية امام تحرك الشعوب العربية. مازال وهم تفرد الولاياتالمتحدة بمكانة الهيمنة والصدارة في العالم رغم موجات التغير التي بدأت تصيغ عالما جديدا متعدد الأقطاب والمراكز والثقافات منتشرا بين قطاع عربي مؤثر ومن هنا رأيت لزاما علينا لفت الأنظار إلي تطورات بارزة في قلب دولة الهيمنة ذلك ان الرئيس أوباما استبعد منذ أيام قلائل طاقم المستشارين الاقتصاديين ثم أدهشنا قراره باختيار جيف ايملت الرئيس التنفيذي لشركة جنرال الكتريك الكبري في منصب كبير مستشاريه, فالنستمع إلي الرجل صاحب الفكر العميق والتجربة الإدارية الممتدة يقول: ان المستهلك الأمريكي احتل مكانة قائد الاقتصاد العالمي دون منازع من2891 إلي7002, ولكن لن يكون هذا مقام المستهلك الأمريكي خلال ربع القرن المقبل, إن محرك النمو العالمي سوف يكون البليون نسمة من الناس الذين سينضمون إلي الطبقة الوسطي في آسيا المعروف ان الرجل وهو من أركان الحزب الجمهوري اليميني منذ القدم يكرر في جميع تصريحاته ان الصين سوف تلعب الدور الرئيسي في هذا التطور إذ ستصبح أكبر اقتصاد في العالم ثم يتحول إلي نقد الأفكار الدارجة في الولاياتالمتحدة التي تري ان نجاح الصين سيكون نتيجة لتدني سعر عملتها وهو رأي بعيد عن الصواب رأي خطر حقيقة. إلي ان يأتي جوهر الفكر الجديد الذي يقدمه لتفسير أسباب مكانة الصين الجديدة في الاقتصاد العالمي علي النحو الآتي: إنه القدرة علي التكيف انه سرعة التحرك, إنه إجماع الهدف, إنه إنتاجية الفكر, مشيرا إلي انه كلما يزور زملاءه في وزارة السكك الحديدية في بكين يجدهم في مكاتبهم يوم الأحد يعملون. العبارة اللافتة في هذا الحديث المركز انما هي عبارة إنتاجية الفكر أفكار المستشار الاقتصادي الجديد للرئيس أوباما تؤكد نتائج المسح الذي قامت به منظمة برنامج التقييم الدولي للطلبة بيازا في ديسمبر الماضي التي خلصت إلي ان شباب تلاميذ الصين يحتلون المكانة الأولي بين شباب تلاميذ56 دولة في المجالات الرئيسية: العلم والقراءة والرياضيات. إلا ان نسبة كبيرة من المعجبين دعنا من المتنكرين أو الأعداء يرددون مقولة ان هذا التقدم المعرفي والعلمي الهائل مرده إلي استنساخ العلوم والتكنولوجيا الغربية ولا شك في ان الصين استطاعت ان تستوعب كل ما اتاح للغرب ان يتقدم علي الشرق الحضاري منذ نهاية القرن السادس عشر ولكن الأهم والمهم الذي يفوت قطاعا واسعا من المهتمين بأمور الدنيا وصياغة العالم الجديد إنما هو طاقة الإبداع الصينية وطاقة الإبداع هي التي عبر عنها جيف ايملت بتحديد انها إنتاجية الفكر ومعني هذه العبارة ان الفكر الصيني في مرحلة التحرك من ثورة التحرير إلي إقامة مؤسسات دولة جمهورية الصين الشعبية إنما اتجه إلي قلب عملية النهضة التي هي الإبداع الفكري والإبداع الفكري أو إنتاجية الفكر يتبدي في جميع القطاعات من التكنولوجيا إلي الاقتصاد, من الإسكان إلي المواصلات, من العلوم الطبيعية إلي العلوم الإنسانية والاجتماعية, من السياسة إلي الفلسفة. ويؤكد الخبير الأمريكي ان إنتاجية الفكر في الصين تتحقق من خلال وعلي أساس النظام الشيوعي وربما وجب هنا إضافة انه النظام ذو الخصوصية الصينية وهو الذي في رأي إيملت يحقق قدرا رفيعا من الفعالية وذلك بفضل ما حققته سلسلة برامج السنوات الخمس الإثنتي عشرة. وعند هذا الحد وجب التساؤل: ما هي أهم تعاليم تراث حضارة الصين, شقيقتنا في الميرة الحضارية منذ مطلع التاريخ؟ ولعل التوقف هنا واجب عند عتبة كونفوشيوس وهو المعلم الأول في تاريخ الحضارة الصينية وهنا استسمح القارئ من العودة إلي كتاب الأحاديث وكنت قد عرضت له في عديد من كتاباتنا السابقة خاصة في كتابنا الصين في عيون المصريين6002 ربما في السعي لجذور ما يفيد: قال الأستاذ كونفوشيوس: إن كان السعي لتحقيق الثراء يمثل هدفا مبدئيا لسعيت أنا أيضا إليه حتي لو اضطررت إلي العمل كخادم مساعد ولكن مادام الأمر علي ما هو عليه فالأفضل أن أسير حسب هواي. ومعني ذلك ان السعي إلي الثراء ليس هدفا في حد ذاته وكذا فإنه ليس الأفضل وإنما الأفضل هو ان يسعي الإنسان لتحقيق توجهاته الذاتية بعيدا عن الثراء ومن هنا كان يمكن تفسير هذا القول بأن هذه التوجهات الأفضل إنما تتمثل في وحدة الوطن ودعم قوته ونفوذه وثراء جميع المواطنين وسعادة السكان ولم لا؟ ثم يمضي كونفوشيوس في كتابه الاحاديث يتساءل عن كيفية نجاح الأمم وكذا كيفية تدهورها أي انه يدخل في صلب فلسفة السياسة. سأله أحد المريدين: أستاذنا هل هناك شعار واحد يمكن ان يؤدي إلي خراب بلد بأسره؟ أجاب كونفوشيوس: الحق ان مجرد كلمات لن تحقق هذا الخراب, ولكن هناك قول ربما يفيد: إن اللذة المترتبة علي تولي الإمارة, اللذة الوحيدة, هي أن الأمير يملك حق ألا يقبل التناقض, فإذا كنت علي حق ولاتجد أحدا يعارضك, ألا تري معي ان هذا الأمر يكون بمثابة الإجابة عن سؤالك: فهل هناك شعار واحد يمكن ان يدمر بلدا( مثل هذا الشعار)؟ قال صاحبي: لو كان كونفوشيوس معنا هذه الأيام لعله تعجب لأحوالنا اليوم إذ يتساءل: أليست مصر وريثة أقدم حضارة في تاريخ المعمورة؟ أليس من الواجب ان تعود أمتنا المصرية شعبا ودولة, إلي أركان تعاليم حضارتنا العظيمة؟ كيف أهدرنا رسالة الفلاح الفصيح الذي عرف كيف يشق الطريق إلي مجتمع عادل منتج, صاحب الإبداع, منتج الثراء, رائد التوحيد؟ ثم كيف تكون العلاقة بين تاريخ الثورات في ديار مصر المحروسة ونهضتها الحضارية جوهر المشروع الوطني؟ أراك تبتسم وكأنك تقول: عفارم علي شباب مصر يدا في يد مع جيش الوطن! المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك