أنا من جيل, عاش وهو تلميذ.. تحية العلم في طابور المدرسة كل صباح, وكنت أنشد بلادي بلادي لك حبي وفؤادي, ولم أكن أفهم في العمر المبكر معني الحب لبلادي, فقد كان حبي لأمي يملأ قلبي الصغير. كانت حنونة أكثر من أبي ولم تكن تخيفني ب أبو رجل مسلوخة مثل سائر الأمهات وكانت تطلق سراح أسئلة في رأسي علي لساني. بينما كان أبي يصادرها, ذات مرة رأيت أبي يبكي إذ طفرت الدموع من عينيه إثر قراءته لنعي زميل له في العمل, أذهلني ضعفه فبكيت مثله وأنا لا أعرف من فارقه.. قالت أمي إن الميت هو مصري أفندي عبدالواحد, وأضافت أمي( كان مصري بصحيح), كانت هذه أول مرة أسمع اسم مصري, فقد كنت أظن أن اسمي قليل ولكني اكتشفت أن اسم مصري أكثر ندرة وظللت بفضولي المبكر أسأل عن سر هذا الاسم الفريد حتي علمت أن الرجل ولد يوم عودة سعد باشا الي مصر من منفاه, وعرفت فيما بعد من هو سعد باشا ولماذا نفي وكيف عاد, لكن الشئ الذي بقي في وجداني أن مصر غالية جدا. أنا من جيل سمع أم كلثوم تغني مصر التي في خاطري وفي دمي, وسمع فيروز تشدو مصر عادت شمسك الذهب, وسمع عبدالحليم يقسم بها( أحلف بسماها وبترابها) ثم يفتح ذراعيه لها ويغني( بالأحضان يا بلادنا) وسمع عبدالوهاب يغني لها( اسلمي يا مصر) وسمع شاعر العامية الفصيحة صلاح جاهين يقول: علي اسم مصر.. التاريخ يقدر يقول ماشاء.. أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.. باحبها وهي مرمية جريحة حرب.. بحبها بعنف ورقة وعلي استحياء.. أكرهها والعن أبوها بعشق زي الداء.. واسيبها واطفش في درب وتبقي هي في درب.. وتلتفت تلاقيني جنبها في كرب. أنا من جيل فهم وهو طالب في الجامعة معني( مصر ولادة) من استاذ الأدب الشعبي د. عبدالحميد يونس, وفهم معني( عبقرية مصر) من أستاذ الجغرافيا د. محمد محمود الصياد, وهم معني( مصر التراث) من أستاذ الأدب الانجليزي د. رشاد رشدي. وفهم معني قيمة( أدب مصر الحديث) من أستاذ الأدب د. سهير القلماوي, وفهم الفرق بين الصليبيين والمسيحيين في التاريخ المصري من أستاذ التاريخ المعاصر د. محمد نجيب نسيم, وحين سمح لي بصحيفة حائط متواضعة تعلق علي حائط قسم انجليزي بكلية الآداب, خصصت عمودا للقراء من زملائي الطلبة والطالبات بعنوان( عتاب لمصر) يسجلون فيه خواطرهم التي تحمل عتابا للمحروسة,. أنا من جيل ذهب الي محمد نوح في الهرم وهو يغني لمصر ويصرخ كالمجنون( خديني, دفيني يا حبيبتي يامصر), اقتربت من المفكر سلامة موسي الذي تعلمت منه أن الذهاب للجنوب أجدي من الإبحار للشمال, وكيف أن صعيد مصر ثروة مصر ولا ندري, وكيف أن المرأة ليست لعبة الرجل, اقتربت من( أبو علم الاجتماع د. سيد عويس) الذي تعلمت منه أن قيم التراث تحتاج لغربلة وتنقية لتلائم الحداثة في وطن يتجدد, وبهرني عويس بأهمية المخزون الثقافي لمصر وخطورة سيطرة الغيبيات علي العقل المصري ولعله أول من نادي بالدولة المدنية لمصر أسلوبا ومنهجا, وكيف أن الغلاة في الأديان ينحرفون بها عن عمق مضمونها الروحي. أنا من جيل رفض السفر خارج مصر ثلاث مرات للرزق, مرة, حين أوقفني النظام الشمولي في الستينيات عن العمل الصحفي والإذاعي والتليفزيوني لتطاولي لنشر حقائق كان مسكوتا عنها ورغب الأستاذ سعيد فريحة صاحب دار الصياد اللبنانية أن أسافر الي بيروت للعمل هناك بعد أن فقدت موردي, واعتذرت وبقيت في مصر لا أغادر بيتي وممنوع من الشكوي الليلية في كافيتريات الفنادق اذ فتحت السيرة مع أصدقاء, واعتذرت للأستاذ عماد الدين أديب عن السفر الي لندن حين تولي موقع رئاسة تحرير مجلة( المجلة) السعودية, وكان من الممكن العمل هناك وتعمل زوجتي المذيعة في ال بي.بي.سي العربية, ولكني فضلت البقاء في البلد والكتابة للمجلة من مصر, واعتذرت للناقد الراحل الكبير رجاء النقاش عن السفر للعاصمة القطرية حين كان رجاء يرأس تحرير مجلة الدوحة واسعة الانتشار في الأوساط الأدبية والثقافية وفضلت أن أجري حوارات أدبية مع مثقفين مصريين وأرسلها بالبريد الي مجلة الدوحة. لقد استقر في يقيني أن الغربة مرض, وأن مصر بكل عذاباتها تنادينا بالبقاء حولها مسلم, مسيحي, يهودي, درزي, أي ملة, فدورنا أن نلتف حولها( في أي كرب) ومصر الآن تواجه أكثر من كرب وتريد دروعا وعقولا بشرية, الكرب في مصر يصدر لها من خارج حدودها وينبت في أرضها أيضا, الكرب في مصر يتسلل من نقط ضعفنا وهشاشة أرضيتنا, الكرب في مصر ينفذ من ضعاف النفوس الذين تحكمهم مصالحهم ويشوهون وجهها, الكرب في مصر يأتي من الزعامات الورقية والصوتية, الكرب في مصر يصل للأعناق من تعليم مبتور وفن هابط وعدم اعتزاز بمقدرات بلد, الكرب في مصر, وراءه مسئول منافق وأحيانا مساير وأحيانا ساكت وأحيانا ليس كفؤا وأحيانا مرتعش وأحيانا يلعق الأحذية, الكرب في مصر إرهابا كان أو غلاء كان أو تمييزا كان, يحتاج للالتفاف حول البلد لا التمزيق في أوصالها وشرايينها, لتجدنا حولها ومعها, لا ضدها: نهتف باسمها ونرفع علمها ونتكحل بطميها. من هنا أهمس وأصرخ وأغني خلي الوطن صاحي, ليكون شعار المخلصين لهذا البلد, المنتمين لترابه, الملتحفين بسمائه, الآكلين من خيراته. خلي الوطن صاحي لكي ينام أطفالنا بعمق وتنزل نساؤنا الي الشارع في أمان ويتنزه عجائزنا في الحدائق بيسر, خللي الوطني صاحي لنسد وجه الشمس أمام المتربصين لنا, والطامعين فينا. آمين..