فجأة مثل طلقة رصاص طائشة في فرح بلدي سألني جار قديم لم أره منذ زمن بعيد: أين أسامة بن لادن ؟! تعجبت من السؤال ونظرت إليه مندهشا وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ما الذي فكرك به؟ نظر إلي شذرا: أسامة بن لادن مجاهد.. قاطعته قبل أن يستطرد: أكيد مات وشبع موت من سنوات كثيرة..وكان مجرد أداة انتهي دورها, فتلاشي مثل فص ملح وذاب. أنهيت الحوار مع جاري القديم العجوز نصف المتعلم قبل أن يدخل إلي مزالق ومنحنيات غبية, لكن سؤاله لم ينته في عقلي, ليس السؤال في حد ذاته, وإنما العقل المشغول به..فإذا بكرة هائلة مشتعلة بالتساؤلات تلاحقني: هل العالم الإسلامي في حاجة إلي مخاصمة العصر والعودة إلي الماضي وتدبير عمليات التفجير أم في حاجة إلي التعليم الحديث والتفكير المنظم ومصالحة العصر وإصلاح نظمه السياسية لتنتشله من مستنقع التخلف الذي يسبح فيه منذ أكثر من ستة قرون ؟!, هل إمساك بندقية داخل كهف جبلي أو التدريب علي صناعة المتفجرات أو ارتكاب مجزرة في الإسكندرية أو بغداد أهم وأجدي من قراءة كتاب أو بناء مدرسة أو تعليم فتاة أو محو أمية جاهل أو العمل علي بناء مجتمعات مدنية أو علاج سقماء الجسد والعقل ؟!. في عصور الانحطاط يتمسك الناس بمظاهر الحياة ولا يهتمون كثيرا بجوهرها, ويتحول المجتمع إلي مكلمة أو ساحة جدل عشوائي أو سوق لغوي, وتتراجع قيم العمل والاجتهاد والمثابرة والإصلاح والتقدم, ويحل محلها فهلوة التنبلة وادعاء العمل والملل والفساد والجمود! تلمع قطع الزجاج المطلية فائقة الصنعة في فترينات الطبقات الاجتماعية وتتواري الجواهر النفيسة الطبيعية عن الأنظار, تجلس شخصيات نصف موهوبة أو محرومة من المهارات المتميزة خلف مكاتب القيادة مرفوعة إليها بقدرة هائلة علي التسلق مثل النباتات الطفيلية وتقف المواهب وأصحاب المهارات الفائقة في الصفوف الخلفية, تختفي الحقائق والمعلومات وتنتشر الشائعات والنميمة, تنتكس الثقافة والفنون الرفيعة وترتفع أعلام الموروثات والخرافات الشعبية المتخلفة, ينحسر الجمال والعدل ويتوحش القبح والظلم, ينهمك الناس في صغائر الأشياء والتافه من الأمور. إذا تركنا موضوع العصر والحضارة جانبا, واختزلنا حيرتنا في سؤال مباشر هو: هل نحن مسلمون حقا ؟ لا تتسرعوا في الإجابة. فالسؤال أكثر تعقيدا مما تظنون.. وقد أجاب عنه الإمام محمد عبده حين عاد من الغرب في أوائل القرن العشرين: لقد وجدت إسلاما دون مسلمين.. وفي بلادنا مسلمون بلا إسلام.. أي وجد في الغرب الصدق والأمانة واتقان العمل والنظام وطلب العلم ولو في الصين والاجتهاد وعدم التبرع بإيذاء الآخرين والتفتح علي الحياة ونبذ التعصب.. وهذا لا يعني مطلقا أن هذه المجتمعات خالية من الكذابين والفهلوية والمتعصبين والجهلة والأغبياء, لكنهم علي هامش الحياة ولا يمثلون الشريحة الأكبر!. وهي مقولة مدهشة تلخص جوهر الأزمة التي انحشر فيها العالم الإسلامي, وهي التمسك بشكل الدين دون جوهره.. بشكل الإيمان دون العمل به.. بادعاء الأخلاق وقصرها علي العلاقة بين الرجل والمرأة دون أن تمتد إلي تفاصيل الحياة اليومية.. ودعوني أرو لكم هذه الحكاية البسيطة! أسكن بجوار مسجد من الذي تتردد عليه جماعات من أصحاب الذقون الطويلة والجلاليب الباكستانية والنقاب الأسود, وبالرغم من أن الجامع يطل علي طريق رئيسي, فهم لا يتحرجون من إغلاقه سواء بركن السيارات أو فرش البضائع من عطور شرقية وأزياء يصفونها بأنها إسلامية وكتب دينية أغلبها عن عذاب القبر وأشرطة كاسيت تتوعد الغافلين بنار جهنم وبئس المصير,وذات مرة انفعلت في أحدهم قائلا: إماطة الأذي عن الطريق صدقة.. وأنتم تقطعون الطريق!. فرد علي متجهما: هل تريد منعنا من الصلاة؟!.. تستطيع أن تلف من سكة ثانية! قلت: قد يكون هناك مريض في حالة خطيرة أو أن حريقا شب في بيت.. أو.. والثانية وليس الدقيقة في هذه الحالات مهمة جدا! فرد في يقين والتجهم يأكل وجهه: لا يصيبنا. إلا ما كتب الله لنا!. هذا هو العقل الضعيف.. سبب التخلف.. والإيمان الشكلي.. سبب التعصب! وهي نفس الحالة التي انتشرت في أغلب المصالح الحكومية حين يهجر الموظفون. مكاتبهم عند أذان الظهر ويتوجهون للصلاة معطلين مصالح الناس والعملاء, مع أن فترة الصلاة ممتدة إلي توقيت العصر.. وذات مرة قلت لمدير في مصلحة تنطبق عليها نظم القطاع الخاص أن يقول لموظفيه أن ساعات العمل من حق المواطنين ومن يرد أن يصلي فليصل من وقته وليس من وقت الآخرين! فسألوه: ماذا يعني ؟! فقال:سنعطي نصف ساعة للصلاة تضاف إلي مواعيد العمل الرسمية ويصبح الانصراف في الثالثة والنصف وليس الثالثة. فرفض كل الموظفين الاقتراح.. وقالوا: أنت تريد منعنا من الصلاة وتقف بيننا وبين الله. وخاف المدير من تهمة محاربة الدين فتخلي عن الفكرة.. وبات موظفوه لا يقتطعون من وقت العمل نصف الساعة فقط بل ساعة كاملة للوضوء والصلاة!. هذا هو العقل الضعيف.. الذي يهدر قيمة العمل.. وهذا هو الإيمان الشكلي الذي يهدر حقوق الآخرين!. ولو استعرضنا مظاهر حياتنا.. لعثرنا علي عشرات التفاصيل المشابهة, التي نغتال بها أي فرصة للخروج من مستنقع التخلف. فهل نجلس ونفكر دون أن نكذب علي أنفسنا: لماذا نحن متخلفون؟ وبالقطع لا نهدر الأسباب السياسية ولا نقلل من مسئولياتها, لكنها أسباب ومسئوليات داخل بيئة ملائمة وحاضنة, يسيطر عليها عقل سلفي يري في الماضي كل الخلاص مع أن الحياة منذ خلقها الله حركة إلي الأمام لا تتوقف. باختصار..إذا استطعنا الإجابة: لماذا نخن متخلفون؟!, فربما نخرج من نفق الماضي إلي جسر المستقبل, ولن نتعصب ضد الآخر الذي يعيش معنا وهو منا.