شهدت مدينة الأقصر هذا الأسبوع حدثا غاية في الأهمية هو مهرجان طيبة الثقافي الدولي الذي عقد هذا العام دورته الثالثة تحت عنوان النيل في ثقافة الشعوب الإفريقية, وبرغم نجاح المهرجان الباهر علي المستوي الفني والأدبي فإنه يكتسب أهمية سياسية خاصة ترتبط ارتباطا وثيقا بعلاقاتنا مع القارة الإفريقية, خاصة مع دول حوض النيل. لقد انحصرت علاقاتنا بالدول الإفريقية حتي في أزهي عصورها في المجال السياسي, وفي بعض الأحيان كانت تمتد إلي المجال الاقتصادي, لكننا أهملنا الجانب الثقافي تماما ولذلك حين فترت العلاقات السياسية وحين انكمشت التبادلات التجارية لم يبق من تلك العلاقات إلا تاريخ زاه ينير صفحة العلاقات العربية الإفريقية دون أن يكون له وجود في الواقع الحالي, ولو كانت علاقاتنا تركزت في جانب منها علي التقارب الثقافي لكان الوضع اختلف, فالعلاقات الثقافية لا تتغير بتبدل السياسة ولا تتأثر بانكماش التجارة بل إن الثقافة في كثير من الأحيان تكون هي المحرك والدافع للسياسة والاقتصاد معا, وتلك حقيقة يدركها الفرنسيون أكثر من غيرهم, فهم يتقدمون إلي أي دولة بالثقافة أولا فتترسخ أقدامهم, مما يتيح لهم بناء العلاقات السياسية والتبادلات التجارية. وأذكر حين حصلت فرنسا علي امتياز بناء المترو أن قال لي السفير الأمريكي في القاهرة آنذاك إدوارد واكر إن الفرنسيين يأتون لكم بالفرق المسرحية وبالعروض الفنية ويقيمون المراكز الثقافية ثم ينتهي بهم الأمر أن يحصلوا علي كل الامتيازات الاستثمارية والتجارية, وكان السفير يشير بذلك ليس فقط لمشروع المترو وإنما ايضا لشبكة التليفونات المحمولة التي حصلت علي امتياز اقامتها شركة الكاتيل الفرنسية في مواجهة شركات أجنبية أخري عديدة. لقد اجتمع في الأقصر لأول مرة ما يزيد علي عشرة من كبار أدباء إفريقيا في لقاء ثقافي دام ثلاثة أيام مع أدباء وكتاب من مصر والوطن العربي, ولم يقتصر اللقاء علي أدباء دول حوض النيل وحدها وإنما ضم أدباء من نيجيريا وغانا ورواندا وبوركينا فاسو والكاميرون وغينيا والصومال وتنزانيا وأنجولا مع الأدباء العرب من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والإمارات والسودان وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا, في تظاهرة لم يكن لتتم لولا الدعم الذي تقدمه محافظة الأقصر بقيادة اللواء الدكتور سمير فرج الذي أضاف للأقصر رونقا ثقافيا جديدا. ولقد تكشف لنا خلال المهرجان رصيد هائل من الثقافة المشتركة لم يتم الالتفات له في الماضي أو استثماره بالقدر الكافي, فقد وجدنا بعض الشعراء مثلا ينفعلون بالنيل وما يمثله لإفريقيا باعتباره أطول نهر في العالم والذي قامت علي ضفافه بعض أهم الحضارات الإنسانية, والكثير منهم يعتز بالحضارة المصرية القديمة باعتبارها حضارة إفريقية في الأساس. لقد قسم الاستعمار الأوروبي القارة الإفريقية أفقيا ما بين ماسمي شمال الصحراء وهو يضم الدول العربية وجنوب الصحراء الذي أسموه إفريقيا السوداء وكأن الشمال ليس به سمر البشرة ثم كان التقسيم الرأسي داخل كل من هذين القسمين بين دول الساحل الشرقي ودول الساحل الغربي, أما في الشمال فكان التقسيم الرأسي ما بين ما أسموه دول شمال إفريقيا التي تضم: المغرب والجزائر وتونس ثم مصر التي ألحقت بما سمي منطقة الشرق الأوسط, أما ليبيا فلا كانت في هذا القسم ولا ذاك. لقد قال لي كاتب نيجيريا الكبير فستوس إياي الذي كان يزور مصر لأول مرة إنه شعر بأنه في بلاده وتعجب من قدر التشابه الذي وجده برغم أن أعماله ترجمت إلي اللغات الأجنبية ولم تترجم إلي العربية. وقد اتفقت معه إحدي دور النشر علي ترجمة كتابه الشهير العقد الذي صدر عن دار لونجمان في انجلترا. ولقد جسد أهمية هذا اللقاء الدكتور بطرس بطرس غالي سكرتير عام الأممالمتحدة الأسبق في رسالته التي بعث بها إلي المهرجان حين قال إن استمرار عقد هذا اللقاء سنويا يضع أساسا متينا للعلاقات مع إفريقيا لا يمكن للتقلبات السياسية أن تؤثر فيه.