جوهر الشوارعيزم هو الاستقواء, والذي بات سائدا في الشارع عضليا, وصوتيا, وإداريا, وسياسيا, وثقافيا علي أيادي أفراد النخبة البديلة( بعض رجال الإدارة+ بعض رجال الأعمال+ إرهابيو الصوت والقلم من الإعلاميين والصحفيين المأجورين). وفرض ذلك الاستقواء أوضاعا خانقة علي بقية الناس, منكرا حقوقهم في الأمن, والخبز, والحرية, وعاصفا بمعني سيادة المعايير التي تعني الحد الأدني من العدل في نهاية المطاف. وعلي تعدد تجليات الشوارعيزم, التي أفضت في رصدها والحديث عنها طوال سنوات ثلاث, في هذا المكان, إلا أن واحدا من أهمها يتبدي أمامي الآن علي نحو يحرضني علي الكتابة والإفاضة فيها وهو:( إطاحة الديمقراطية باستخدام أدوات ديمقراطية)!! أصبح هذا المفهوم متكررا في سلوكات الأفراد, وتجمعات المجتمع المدني, محاكيا سياسات الحكومة, وقراراتها, يعني صار( أهليا) بمعني من المعاني!! وأدخل الآن في توصيف الحالة التي رأيتها الأوضح لمناقشة حكاية إطاحة الديمقراطية باستخدام أدوات ديمقراطية, وأقصد حالة نادي الجزيرة الرياضي( أنشئ عام1882 باسم نادي الخديو الرياضي). وبالمناسبة, وكما كتبت هنا لمرات, فإن حديثي عن نادي الجزيرة أو حي الزمالك ليس انفصالا يحلق بعيدا عن جسم المجتمع بأغلبيته من البسطاء والمستضعفين, كما ليس تعبيرا عن خلل أولويات في أجندة كاتب السطور. إذ أولا أكتب عن الزمالك كما أكتب كذلك عن حكر أبودومة, وحجر النواتية. وثانيا: لست من هواة تقسيم البلاد إلي مناطق نفوذ اجتماعي, لا بل إنني من المحذرين الزاجرين لمعتنقي عقيدة الانفصال الذين كرسوا معني الانقسام, ودفعوا إليه بتعميق الهوة المعنوية والمادية بين البسطاء والأثرياء. أنا مع تجسير الفجوات, ولو علي المستوي النفسي, لأن ذلك ما يصنع أفقا أو مجالا للحوار ويدفع إلي اللقاء الوطني لا الإنكار والمخاصمة, ويسمح بأن نرسخ ثقافة المشاركة الوطنية لا فقه العبودية, أو منطق التسيد. وثالثا: البلد بلدنا كلنا, والزمالك ليس ملكا خالصا لقاطنيه, كما نادي الجزيرة ليس مستعمرة تتمتع بنقاء العضوية لمن يحملون بطاقاتها, كما لو كانت فضاء فصل عنصري أو طبقي, وإنما هو أحد الأصول المملوكة للشعب, في التحليل الأخير. ورابعا: حذرت دوما من الخلط بين موقف الانحياز إلي البسطاء, وثقافة الانتقام من بعض الرموز الاجتماعية للطبقة الارستقراطية القديمة, التي تلاشت بقاياها علي نحو يجعل الحديث عنها كالحواديت, واستدعاء صورها بعثا للخرافات والأساطير, فضلا عن أن طبقة الأغنياء الجدد أصبحت لها أماكنها الأخري غير نادي الجزيرة الذي لم يعد سوي ساحة لذكريات العز الذي كان. خامسا: يفترض ألا تصبح القيمة التاريخية لبعض منشآت النادي هدفا لاجتياحات فيها استسهال الإطاحة, والقرار في هذا الشأن اختصاص أصيل للمجتمع بأكمله, وليس حكرا علي أعضاء نادي الجزيرة فحسب. سادسا: اضطررت لكل هذه التحسبات المطولة قبلما أدلف إلي الموضوع متجنبا لجاج مرذول سمج يصرفني عن الهدف الأساسي لسطوري, ويرهقني ويستهلكني, كما العادة المصرية المحدثة, في ساحة إجهاد تتعلق بالفروع وتترك الأصول, أو تنصرف إلي الحواف والهوامش مخاصمة القلب والجوهر. علي أية حال... الموضوع يتعلق بقرار لمجلس إدارة نادي الجزيرة يبغي إجراء تعديلات كبيرة في ستاد التنس الرئيسي وتحويله إلي ملعب مكشوف, إلي صالة مغطاة لألعاب جماعية ثلاث, وهذا الملعب هو الوحيد من نوعه ولا يوجد, علي حد علمي, ملعب آخر مكشوف في مصر أو المنطقة. وأتصفح أمامي أوراق جدول أعده بعض أعضاء الجمعية العمومية يوضح القيم التراثية لمبني السنتركورتCenterCourt( الملعب الرئيسي بنادي الجزيرة) طبقا لمعايير وأسس الدليل الإرشادي الصادر عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري, وزارة الثقافة عام2009, وهي القيمة التاريخية+ القيمة المعمارية الفنية+ القيمة العمرانية+ القيمة التقليدية المحلية+ القيمة المعنوية الاجتماعية, وأنقل من تلك الأوراق: أن الملعب ارتبط ببطولة مصر الدولية للتنس, وهي بطولة تاريخية قومية بدأت عام1904 قبل بطولة أستراليا المفتوحة عام1905, وبطولة فرنسا المفتوحة1925, وتنافس علي أرض ملعبنا عدد من أساطين التنس العالميين, منهم بورج, ورود ليفر, وبروجيرا, وإسماعيل الشافعي, وقام بتصميم المبني المعماري الإيطالي الشهير هنري فريسكو الذي مازالت لافتة تحمل اسمه تحتل موقعا بارزا عند مدخل الاستاد, وهو من المعماريين المشهورين الذين أسهموا في النهضة المعمارية المصرية في منتصف القرن العشرين, وله العديد من المباني بمنطقة الزمالك, وشهد ذلك الاستاد حفلات فنية لعمالقة الفنون في مصر والعالم مثل عبدالحليم حافظ, وداليدا, ديميس روسوس, كما يعد ضمن مبان تراثية تتكامل مع بعضها من حيث الشكل والتصميم والارتفاعات وأسلوب البناء, وهي مبني الليدو, ومبني النيوبلدنج, ومبني السنتركورت الذي عليه الكلام. المهم أن مجلس إدارة نادي الجزيرة دعا إلي جمعية عمومية عصر يوم جمعة في رمضان الفائت, وبالتالي لم يحضرها أحد, فاستخدم المجلس حقه القانوني في تفويض نفسه لاتخاذ القرارات التي رآها, أي أنه كهيئة منتخبة ديمقراطيا, استخدم صلاحيات بعينها يمنحها له القانون, وبما يتسم( شكليا) باستيفائه المعايير الديمقراطية. لكن ذلك, في تقديري, هو ما وصفته في مستفتح هذا المقال بإطاحة الديمقراطية عبر استخدام أدوات ديقراطية, وهو ما يشكل حالة من الاستقواء غير المبرر علي المجتمع كله. وتطورت المسألة إلي تضاغط بين مجلس الإدارة وبعض أعضاء الجمعية العمومية وصولا إلي دعوة المجلس لعقد جمعية عمومية وطرح الثقة به, بعد أن لوح بعض أعضائه بالاستقالة. وليسمح لي الأفاضل الأعزاء رئيس وأعضاء مجلس إدارة نادي الجزيرة أن أوضح ما قصدت في النقاط التالية, علني أتلقي منهم ما يفيد امتثالهم لإرادة الناس, ولمصالح المجتمع من دون استمساك بما ترتبه لهم الصلاحيات الإجرائية والقانونية. * قبل القيمة الأثرية والتاريخية فإن الذاكرة والوجدان الجمعيين للناس هما أمر رمزي لا ينبغي لنا جميعا أن نسمح بالمساس به أو العبث فيه, وقد عاش هذا المبني في ذاكرة الناس قرنا من الزمان تقريبا علي النحو الموجود به, وليس هناك ما يبرر الاعتداء علي حضوره المعنوي ذي الثقل والأرجحية الكبيرين. * وأما عن القيمة الأثرية والتاريخية فقد خاطب النادي وبعض أعضائه الدكتور زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار, فأرسل لجنة للفحص وتبيان مدي أثرية الموقع, واتصلت هاتفيا صباح الجمعة22 يناير الفائت بالدكتور زاهي لسؤاله عما آل إليه الأمر, فأخبرني أن اللجنة استخلصت أن فيلا ميجور مراد الموجودة في النادي أثرية, أما الملعب المكشوف فليس أثرا في ذاته, وجريا علي السوابق الفنية والعلمية فإن قرار الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار هو أنه مادام الملعب هو في الحرم المحيط بالمبني, فإنه سيعتبره أثرا كذلك, وسوف يرسل لجنة ثانية لفحصه علي ضوء ذلك الفهم. * أريد أن ألفت رئيس مجلس ومجلس إدارة نادي الجزيرة الأفاضل إلي حالة تصلب الشرايين المرورية التي يعاني حي الزمالك منها, وسبق لي أن ناقشتها طويلا في أحد مقالاتي, والتي تسبب في تفاقمها وجود عدد كبير من الكليات والمدارس, لم تجرؤ قوة إدارية, أمام سطوة وجود تلك المنشآت, أو نفوذ أصحابها, أو منعة الجهات العامة التي تملكها, علي نقلها من الزمالك واستعادة بعض الطقس الإنساني, أو الحياة المفهومة إلي ذلك الحي. إن الكثير من جمعيات المجتمع المدني, وعلي رأسها جمعية سيدات الزمالك( والاستماع لها قيمة ديمقراطية لمن شاء أن يتعلم) اعترضت علي وجود ملعب دولي في هذا المكان, بما سيخنق تماما شريانا مروريا مهما هو شارع سراي الجزيرة, وقد نجحت عضوات الجمعية في نقل صوتها إلي محافظ العاصمة المحترم د. عبدالعظيم وزير, الذي عقد عددا من الجلسات مع بعض أعضاء الجمعية العمومية من جهة, ومع رئيس وبعض أعضاء مجلس الإدارة من جهة أخري, ودعا الطرفين إلي أن يجلسا إلي بعضهما علي نحو ودي ويتوصلا إلي قواسم مشتركة, وأخبرني السيد المحافظ, في اتصال هاتفي عصر الجمعة22 يناير كذلك: أن أعضاء مجلس الإدارة كانوا قد تحصلوا موافقة من جهاز التنسيق الحضاري بالهدم, ومن ثم أخبرناهم, في بداية طرح الأمر, أنه ليس لدينا مانع, لكن مع استمرار احتجاجات منظمات المجتمع المدني وأعضاء الجمعية العمومية قمت بتجميد الترخيص لحين استكمال دراسة وضع الكثافة المرورية المترتبة علي هذا المشروع, وبما يعطي فرصة لأعضاء الجمعية ومجلس الإدارة في نادي الجزيرة بمراجعة المواقف, وربما يستطيع المهندسون إجراء تعديلات علي المشروع يتوافق عليها الجميع. * إن مثل تلك القرارات تحتاج من أي كيان أو هيئة تمارس الديمقراطية بمعناها الحقيقي أن تنظم جلسات استماع لأعضاء النادي, ولسكان الحي أو من يمثلهم من جمعيات واتحادات, أما اقتناص فرصة وتحصل تفويض لعدم اكتمال نصاب الجمعية العمومية, وإصدار قرار متعجل قبل إطلاع الناس علي تفاصيله بطريقة( وضحكت عليك), هو أمر لا يليق بالأسماء المحترمة التي أصدرت القرار, فضلا عن أن تفصيلات كثيرة ينبغي أن تتمتع بالشفافية في هذا الملف, وضمنها تكلفة إقامة المجمع المغطي, إذ بدأ الحديث عن المشروع بستة ملايين ونصف مليون جنيه, ارتفعت في آخر تقدير للنادي لتصل إلي نحو اثني عشر مليون جنيه, وهي ليست التكلفة النهائية بعد, وهنا تلزم الشفافية, وهي قيمة ديمقراطية بالدرجة الأولي. * إن نادي الجزيرة يملك أرضا رحبة في مدينة السادس من أكتوبر, فأما وقد ضاقت أرضه في الزمالك فإن المساحة الجديدة في الضاحية الأنيقة تسع بالقطع إقامة مجمع الصالات المغطاة, وعلي نحو مريح لا يؤذي المجتمع هناك. * إن التوقيعات التي رصدتها حتي الآن اعتراضا علي هدم السنتركورت بلغت2500 توقيع, فيما أعضاء النادي نحو37 ألفا, ولكن ذلك ليس معناه أن34 ألفا وخمسمائة موافقون, فالموضوع يقتضي أولا إثارة تيار من الوعي بالملف عبر جلسات نقاش مفتوح, ثم استطلاع رأي الناس بالوسائل الإلكترونية أما التهديد باستقالة المجلس فهو عمل أرجو أن يراجع أصحابه أنفسهم فيه, لأنه لا يحقق استقرار الوعاء أو الهيكل أو المؤسسة( نادي الجزيرة), ويبدو كما لو كان يشترط إذعان الناس لرغبة المجلس حتي يستمر في أداء واجبه( الاستقالة أو طرح الثقة حق قانوني مرة أخري لكنها في حالات بعينها تبدو عملا الغرض منه فرض الإرادة عبر التهديد بإطاحة الاستقرار). الديمقراطية هي روح وليست نصوص قانون فقط. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع