كتبت في مقال سابق بعنوان مصر التي في خاطري, عن مصر كما أتمناها وما اخشي عليها منه, وكان ما دفعني إلي كتابة ذلك المقال انني قد ساورني القلق علي بلدي من التغيرات التي حولنا وكان حجر الزاوية في مقالي هو خشيتي من مساعي بعض ممن حولنا من تفسيخ النسيج الداخلي لبلدنا الحبيب وكان ومازال تقديري انه لايمكن أن نعالج هذه المحاولات إلا بإزكاء المواطنة الحقيقية, والتي ستقود إلي التصدي بذاتها لأي محاولة لإيجاد فرقة داخلية إثنية أو عرقية أو خلافه. وكان ومازال مايحرك هواجسي في هذه المرحلة, ما أراه يتحقق أمامي من أساليب متعددة لتكريس التجزئة الفعلية لأوطان كان لايمكن ان نقدر لها هذه النهايات السريعة: فالعراق والسودان وربما اليمن ثم فلسطين ومانراه في لبنان وتونس حاليا يفرض علينا أن نتدارس مواقفنا بجدية, ونحدد مواطيء أقدامنا بدقة وتخطيط وحرفية حقيقية. ودعونا نبدأ بسؤال موضوعي وصريح وهو: هل هناك مصلحة فعلية لتفتيت النسيج الوطني المصري؟ وقناعتي التي لا أفرط فيها, وان هناك أطرافا عديدة لها مصلحة في إضعاف مصر كقوة مركزية في الوطن العربي والشرق الأوسط, وأن الوسيلة التي يمكن الاستناد إليها في تحقيق هذه الغاية هي طعن الوحدة الوطنية من الداخل, وتفتيت النسيج المصري, ذلك أن خبرة من تعاملوا مع مصر تقطع بأن الهجوم علي مصر من الخارج يؤدي إلي جمع شمل ولحمة الشعب الوطني وليس تفتيته.. ودعوني اقولها بكل صدق, ان الاحتلال الذي عاصرته لمصر سواء من بريطانيا العظمي أو إسرائيل جمع المصريين بمختلف أطيافهم علي قلب رجل واحد لتحرير مصر.. وعندما بدأ البعض يمزج الدين بالسياسة للمواءمة بين القوي الشيوعية والإسلامية, قلبت المعايير, وسادت حالة من التفسخ الداخلي في وقت لم يكن يربطنا فيه هدف وطني واحد يقوي من نسجينا الوطني. وعدت إلي ملفاتي لأقرأ بتأن مقالا كان قد نشر في فبراير1982 بجريدة كيفيونيم التي تصدر عن إدارة الاستعلامات للمنظمة الصهيونية الدولية وكتبه عوديد ينون وهو صحفي إسرائيلي كان يعمل في السابق ملحقا في وزارة الخارجية الإسرائيلية, ويركز المقال علي الاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط, وفيه يحدد ان إبقاء إسرائيل يلزم أن يقوم علي الاسس التالية: 1 ان تصبح إسرائيل قوة إمبريالية اقليمية. 2 تقسيم المنطقة الي دويلات صغيرة, وذلك بتفتيت كل الدول العربية الحالية. 3 ان التفتيت من الداخل يعتمد علي التكوين العرقي والديني لكل دولة. 4 في مصر هناك أغلبية سنية تواجه أقلية كبري من المسيحيين يسيطرون علي صعيد مصر وأن مسئولا مصريا رفيعا قد اعرب في خطاب شعبي له عن خشيته من أن يطالب المسيحيون بدولة لهم. وتبدو أهمية هذه التقديرات في إنها قد وضعت موضع التنفيذ منذ نشرت في عام1982 سواء في لبنان والحرب الأهلية بها أو العراق وما قدمته إسرائيل من معونات أمنية ومخابراتية لبعض من الطوائف إبان فترة الغزو الأمريكي للعراق وفلسطين والسودان واليمن ومحاولات إسرائيل التغلغل في دول حوض النيل وما يستجد. وخلاصة القول إن مصر مستهدفة لتمزيق نسيجها الوطني, والعمل علي تقليص الدور المصري كقوة إقليمية مركزية.. وقناعتي الذاتية ان السنوات العشر القادمة سوف تحدث فجوات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط, وسوف يعاد صياغة منظومة الوضع الجيو استراتيجي للمنطقة بمنظور أمريكي إسرائيل. وهنا لا أجد أن أمام مصر من خيار سوي أن تقوي نفسها من الداخل كضرورة حتمية, وذلك بإعادة صياغة منظومة العمل السياسي بها, فاللحمة الوطنية لايقويها سوي إحساس كل مصري بأنه جزء من هذا الكيان, وأن له دورا مطلوبا في منظومة العمل الوطني, ومن ثم فإن صيغة الحزب الأوحد لايمكن ان تنمي نسيج المواطنة المصرية, وإنما يدعم المواطنة طرح صيغة تضمن المشاركة الشعبية الفاعلة في نسيج العمل الوطني ومنظومة العمل السياسي. فالواقع يقطع بأن الامكانات الاقتصادية والمالية لمصر لن تمكنها من تحقيق الأهداف الطموحة التي طرحها الحزب الحاكم بالنسبة لتحسين الأوضاع المعيشية للشعب المصري, وعليه فإن نبرة التفاؤل المتزايدة قد ترتد إلي خيبة أمل مدمرة للكيان الوطني إذا لم يكن تحقيق المطالب الحدية الشعبية وخصوصا بالنسبة: لرفع مستوي المعيشة والحد من معدلات ارتفاع الأسعار, وتوفير السلع الاساسية محليا وتوفير الميزانية التي تضمن القدر المتيقن من الاستثمارات لزيادة فرص العمالة والحد من معدل البطالة المتزايد وانعكاساته المدمرة للنسيج الاجتماعي المصري, وتوفير المستوي المقبول من العلاج تحت مظلة تأمينية صحية لجموع الشعب المصري, ورفع مستوي التعليم, والحد من تزايد الدين الداخلي وتأثيره السلبي علي موازنة الدولة, والأهم من كل هذا الحد من الفساد, والتحقيق الفعلي لمنظومة العدالة الاجتماعية والتي أصبحت تمثل العقبة الكبري التي قد تؤدي إلي توتر الوضع الداخلي.. ودعونا نقيس الأمور بمقياس اجتماعي واقتصادي واقعي, فليس ارتفاع عدد الهواتف المحمولة أو السيارات وزيادة عدد طلبة المدارس الخاصة بالمعايير التي يقاس بها معدل الرخاء في المجتمع المصري, بل هو إما: نوع من التنفيس الاجتماعي بالنسبة للهواتف المحمولة, والتدليس البنكي بالنسبة للقروض علي خمس أو سبع سنوات, والاحتياج الاضطراري بالنسبة للمدارس الخاصة. خلاصة القول إن مصر مستهدفة من الداخل, واستبعد أنه يمكن رتق قماشة الداخل سوي بوسيلة واحدة, وهي: إزكاء الشعور بالمواطنة الحقيقية, وإشعار كل مواطن أنه يمثل جزءا من كيان المنظومة السياسية.. فالحزب الأوحد في مسيرة العمل السياسي سيؤدي إلي إحساس المواطنين بالغربة داخل وطنهم, ويعمق من وهن وضعف الإحساس بالمواطنة ولابديل إلا بفتح الطريق امام تحقيق الديمقراطية التعددية الحقيقية في ظل الدولة المدنية.