كانت الرحلة شاقة لكن كان عليه أن يقطعها.لم تكن المسافة طويلة لكنها كانت ستغير مجري حياته. فيها كان خلاصه من المعاناة التي عاشها سنين. كان أيمن الحمزاوي شابا في مقتبل العمر وكان عليه أن يقطع الرحلة كي يعرف الحقيقة. كان عليه أن يذهب إلي طنطا ليعرف من هو, ومن أمه, وهل هي علي قيد الحياة أو ماتت؟ فكما أن الوطن هو الأم فإن الأم أيضا هي الوطن, والإنسان الذي لا يعرف له أما لا يعرف له وطنا. هو إنسان بلا أصل. بلا جذور. بلا هوية. كانت أول مشاق رحلته في ذلك اليوم الغائم هي تلك المتاريس التي قابلته في طريقه إلي موقف أحمد حلمي ليستقل السيارة البيجو التي ستوصله إلي طنطا. كان الطريق مغلقا وخلف المتاريس وقفت عربات الأمن المركزي المحملة بالعساكر الذين بدا عليهم الإعياء في تلك الساعة المبكرة من الصباح. لم يكن الوقت قد جاوز الثامنة والنصف لكن الشارع كان مليئا بالناس الذين خرجوا يبحثون عن أرزاقهم. كانت بعض الأبنية لا تزال تحمل علي جدرانها العبارات التي كتبها المتظاهرون بالخط الأسود الكبير: فينك فينك يا بلد؟ ضاع مني عمري وقوت الولد. لم يقرأ بقية الشعارات وكأنه دون قراءتها سيسلم من حملة التفتيش التي أوقفت كل المارة بالشارع كي ينظر الضباط الواقفون علي رأس الشارع في بطاقاتهم. لم يكن بينه وبين موقف سيارات الأجرة الذاهبة إلي المحافظات إلا دقائق. لكن حملة التفتيش أوقفت سيارة الميكروباص التي كان يستقلها وأنزلت جميع الركاب وقام أحد الضباط باحتجاز السائق. فحص أوراقه فلم يجدها سليمة علي ما يبدو. فاصطف الركاب في طابور أمام الضابط الذي أخذ ينظر في أوراقهم الواحد تلو الآخر. وأخيرا جاء دور أيمن فأخذ الضابط أوراقه وفحصها, ثم سأله: إلي أين أنت ذاهب؟ رد: إلي موقف أحمد حلمي. سأله الضابط: لماذا؟. قال: لأستقل سيارة إلي طنطا. نظر الضابط إليه مليا ثم أعطاه أوراقه, فانطلق أيمن بخطي سريعة صوب ميدان أحمد حلمي, وحتي لا يتعرض لنفس الموقف ثانية اتخذ شارعا جانبيا بدا له أكثر هدوءا ودار حول الشارع الكبير إلي أن خرج بعد قليل بالقرب من الموقف. قفز علي الفور داخل إحدي السيارات التي سمع التباع ينادي بأنها ذاهبة إلي طنطا وانتظر قليلا إلي أن امتلأت بالركاب ثم انطلقت به إلي الطريق الزراعي حيث الخضرة علي جانبي الطريق ولا ضباط هناك ولا متاريس ولا عربات أمن مركزي. قطع أيمن الرحلة إلي طنطا والتي لا يفترض أن تزيد علي الساعة ونصف الساعة في أكثر من ثلاث ساعات. تعطلت السيارة التي استقلها بعد حوالي أربعين دقيقة من بداية الرحلة. توقف السائق في الطريق. ترك الركاب وذهب يبحث عن سير جديد للمحرك بدلا من ذلك الذي انقطع. اختفي لمدة نصف الساعة قبل أن يعود بالسير المطلوب. ثم توقف السائق مرة أخري حين شعرت إحدي الراكبات بتعب شديد. كانت حاملا في شهورها الأخيرة. تصور الركاب أنها ربما تعاني آلام المخاض. كان علي جانب الطريق مقهي صغير توقف السائق عنده. وبعد أن شربت السيدة كوب عصير ليمون استعادت عافيتها وواصلت السيارة رحلتها. قال أحد الركاب للسائق ألا يسرع حتي لا يقلب بطن السيدة الحامل, وقال آخر إن سرعته الزائدة هي السبب فيما أصابها. كانت السيدة تجلس إلي جانب أيمن. كانت في الثلاثينيات من عمرها. كان يمكن أن تكون أمه, فلابد أن له أما حملت فيه مثل هذه الأم لكنه لم يكن يعرفها, تماما مثل الجنين الذي في بطن السيدة التي تجلس إلي جواره والذي لا يعرف أمه بعد. أحس أيمن أنه ذلك الجنين, وأنه مثل الجنين ماض إلي لحظة ميلاده في نهاية هذه الرحلة حيث سيتعرف علي أمه لأول مرة. عاش أيمن حياته يتصور أن المرأة التي في المنزل هي أمه. أليست هي زوجة أبيه والأطفال ينادونها ماما, سواء هو وشقيقه الأكبر عبد الصمد أو أختهما نسمة التي تصغره بخمس سنوات؟ صحيح أن الأم كانت تتعامل مع نسمة بشكل مختلف فكانت توليها عناية أكثر وتظهر لها قدرا أكبر من الحنان, لكنه كان يتصور أن ذلك لكونها فتاة, أو لأنها الأصغر سنا. لم تكن تلك المرأة قاسية القلب ولم تكن تسيء معاملته. كان إذا مرض أعطته ثمن كشف الطبيب ووصفت له كيف يصل إلي عيادته. أما أخته فإذا سعلت أو أصيبت برشح جرت بها الأم إلي الطبيب وتغير نظام الحياة في المنزل, كما لا يحق لأحد أن يرفع صوته إذا كانت نائمة بعد تناول الدواء, ولا أحد يأكل أمامها إذا كانت ممنوعة من بعض الأطعمة. كم تمني وهو طفل أن يكون فتاة حتي تأخذه الأم في صدرها كما كانت تفعل مع نسمة الصغيرة. كم تمني أن يكون هو الصغير حتي تستذكر له الأم دروسه أو تذهب معه إلي المدرسة في حفل نهاية العام مثل بقية أولياء الأمور. شب أيمن علي هذا الحنين المفقود, حنين القطط الصغار إلي ثدي أمها التي ولدتها في بئر السلم. كان يراقب تلك القطط العمياء المرتعشة وهو عائد من المدرسة, وكان كثيرا ما يقذف لأمها ببعض قطع الخبز حتي يعينها علي إرضاع صغارها ذلك اللبن الدافئ, لبن الأم الذي بدونه يموتون جوعا. وفي أحد الأيام عاد من المدرسة فلم يجد القطة ولا أولادها, وحين علم أن الجارة العجوز التي تسكن الدور الأرضي طاردت القطط الصغار من بئر السلم إلي قارعة الطريق أثناء غياب الأم, جن جنونه وازدادت كراهيته لتلك العجوز قبيحة الوجه التي اخشوشنت بفعل السنين فازدادت طباعها حدة مع الجيران وليس مع القطط وحدها. بحث عن القطط الصغار في جميع الشوارع المحيطة بالمنزل فلم يعثر لأي منها علي أثر. كان بين الحين والحين يسمع مواء القطة الأم التي كانت تعود للبحث عن أولادها. قال له شقيقه عبد الصمد: خلاص يا أخي.. لا تصدع دماغنا بهذه القطط.. هم ليسوا من بقية العائلة! بالطبع لم يكونوا من بقية العائلة, لكنهم كانوا يمثلون العائلة التي كان يتطلع إليها, والتي كان يتمني أن يكون له مثلها, ولم يكن عبد الصمد ليفهم ذلك, فهو لم يكن ينتظر شيئا من تلك الأم التي يعيشون معها تحت سقف واحد. كانت حياته مستقلة تماما لا يأبه فيها بأحد. كان يعمل في السوبر ماركت الواقع في بداية الشارع, وكان له دخل خاص به يعطيه قدرا من الاستقلالية عن الوالدين. لكن كيف كان يعطيه ذلك اكتفاء ذاتيا في العاطفة؟ كيف كان يتغلب علي ذلك الحنين الغريزي الذي يشعر به الأبناء لوالديهما؟ هذا ما لم يكن أيمن يفهمه. إلي أن كان ذلك اليوم حين بلغ عبد الصمد السادسة عشرة وعاد إلي المنزل وقد أحضر من قسم الشرطة الأوراق الخاصة باستخراج البطاقة الشخصية. سأله شقيقه الأصغر: ما هذا؟ فرد عليه وكأنه يحدثه عن أمور الكبار التي لا شأن له بها:تلك أوراق بطاقتي الشخصية. كانت تلك هي البداية, تلك هي اللحظة التي عرف فيها لأول مرة أن ما كان يخالجه من شك صحيح. جلس عبد الصمد علي مائدة الطعام في الصالة وأخذ يملأ الاستمارات. سأل والده عن بعض البيانات فطلب منه الأب الأوراق وأخذ يملأ بياناتها بنفسه وما إن ملأ خانة اسم الأم حتي صاح عبد الصمد: هذا ليس اسم ماما. سكت الأب ولم يجب ثم قال: خذ الأوراق وأنت ساكت وقدمها لقسم الشرطة. لم يجادله عبد الصمد كثيرا. نهض ومعه الأوراق قائلا إنه سيذهب إلي القسم في الصباح لتقديمها. في تلك اللحظة هب أيمن من مقعده وانتزع الأوراق من يد شقيقه وقرأ في خانة اسم الأم آمنة عبد الرحيم السعدي. ردده بصوت عال ثم نظر إلي والده وقال: لماذا كتبت هذا الاسم؟ قال له الأب: لا شأن لك بهذه الأشياء. حين تكبر وتصبح في عمر عبد الصمد سأقول لك. قال أيمن: لكنك لم تقل لعبد الصمد أيضا. فلم يرد الأب. ألح عليه الابن ثانية: من آمنة عبد الرحيم السعدي؟ قل لي يا أبويا. وبعد لحظة تردد قال له الأب: هي أمك لكنها توفيت. فغر أيمن فاه للحظة ثم انهمرت من عينيه الدموع كأن والدته قد ماتت في تلك اللحظة. ظل يطارد والده بالأسئلة:كيف ماتت؟ متي ماتت؟ لماذا لم تقل لنا إن أمنا ماتت؟ لماذا لم تقل لنا هذا من قبل؟. أخذ الأب يتهرب من الإجابة عن أسئلة ابنه المتلاحقة وكأنها طلقات رصاص صوبت إلي قلبه مباشرة, ثم قال: تلك جراح قديمة لا داعي الآن لأن ننكأها فسأله الابن: وأين دفنت أمي؟ أين قبرها؟ لماذا.. قاطعه الأب في حدة طالبا منه الكف عن هذا الحديث. اضطربت حياة أيمن بعد أن تكشفت له تلك الحقيقة التي قلبت حياته رأسا علي عقب. شعر أنه كان يعيش كذبة كبيرة, فأمه ليست أمه, وأمه الحقيقية لا يعرف عنها شيئا, ووالده يخفي عنه ما يحق له أن يعرفه. في الصباح ذهب عبد الصمد مباشرة إلي قسم الشرطة لاستخراج بطاقته الشخصية بينما ظل أيمن في فراشه غير قادر علي النهوض. ظلت تراوده الأسئلة: تري ما الحقيقة؟من المؤكد أن زوجة والده ليست أمه, فقد كان يعرف ذلك بقلبه دون أن يقوله له أحد. لكن تري ماذا حدث بالضبط؟ كيف ماتت أمه؟ هل مرضت أو ماتت في حادث؟ تري أين أهلها؟ لابد أن له أخوالا وخالات, أين هم؟ لماذا أخفي عنه أبوه كل ذلك. ثم هل صحيح أن والدته توفيت؟ ألا يمكن أن تكون لاتزال علي قيد الحياة؟ كيف له أن يعرف ما لا يريد والده أن يعرفه إياه؟ أما عبد الصمد فلم يكن يضيع وقته فيما لا يفيد. كانت الفائدة دائما نصب عينيه, والفائدة عنده لم تكن تتضمن السؤال عن العائلة ومن أفرادها؟ وأين يقيمون؟ وماذا يعملون؟ إلي آخر تلك الأسئلة التي ظل شقيقه أيمن يسأل عنها. لم يكن هناك من فارق في السن إلا سنتان بينه وبين أيمن, لكنه كان يري أن شقيقه الأصغر لا يزال ينقصه الكثير حتي يعي معني الحياة ويعرف كيف يتعامل معها, فماذا تفيد تلك اللهفة علي معرفة العائلة؟ هو أيضا لم يكن يعرف شيئا عن أخواله وخالاته. لم يكن حتي يعرف عن عائلة والده سوي أن جده كان اسمه عبد الصمد وأنه سمي علي اسمه باعتباره الابن الأكبر. لكن ذلك الجد توفي علي أي حال, تماما مثل والدته, فلم يره قط ولم يعرفه. كان يعرف عمه الذي كان يعيش في الريف ويأتي لزيارتهم كل بضع سنوات حين يحضر إلي القاهرة لزيارة الحسين أو لاستخراج بعض الأوراق الرسمية. لكن كل ما كان يتذكره عنه هو تلك الأشياء التي يحضرها معه والتي كان من بينها قشدة الفلاحين كما أسمتها زوجة والده والتي تعرف لأول مرة علي المزازة التي تميز مذاقها. دب أصبعه في الكوز الذي جاءت فيه القشدة وتذوقها خلسة فإعجبته. كما كان يعلم أن له عمة أيضا في الريف لم يرها قط, لكنه سمع والده يتحدث عنها, فلم يهتم بأن يسأله عنها. فما قيمة إن كان له أقارب هنا أو هناك؟ بماذا سيفيدونه وهم جميعا علي ما يبدو من سكان الريف, لا أحد يفيد المرء إلا نفسه. كان شقيقه الأصغر كثيرا ما يتحدث معه في هذه المسائل فكان يقول له: ركز علي دروسك واترك حواديت النسوة هذه, ما لنا نحن بالخالات والعمات؟ ألم تسمع المثل القائل بأن الأقارب عقارب ؟ إن كل الناس عقارب فانتبه لنفسك أحسن وابحث عن مصلحتك. لكن أيمن كان لا يزال صغيرا في نظر شقيقه الأكبر لأنه يبحث عن العاطفة كالأطفال وتشغله أمور لا قيمة لها في الحياة. كان عبدالصمد سعيدا بأنه ملأ الاستمارات الخاصة باستخراج بطاقته الشخصية التي كانت تعني له الكثير. هي نقطة تحول في حياته فمن اليوم هو كيان مستقل وليس تابعا لأحد, والبطاقة هي رمز هذا الاستقلال وإثبات رجولته. الآن يستطيع أن يعمل دون أن يطلب منه أحد موافقة من والده, وإذا وجد العمل الذي يمكن لراتبه أن يلبي احتياجاته قد يتمكن أيضا من أن يترك البيت ويبدأ حياة مستقلة. في المدرسة أصبح هذا الموضوع هو حديث المدرسين بعد أن ذهب أيمن في سذاجته التي كانت تثير عبد الصمد, ليحكي لمدرسة الحساب أبلة فاطمة التي كانت تعطف عليه, قصة اكتشافه أن أمه ليست أمه, وأن له أما أخري ماتت. ظل المدرسون يتحدثون طوال اليوم في هذا الموضوع ويسألون كلا من أيمن وعبدالصمد عن أمهما وقصتها, فأخذ عبدالصمد أخاه الأصغر جانبا في الفسحة وأمسكه من صدر قميصه وهو يتوعده: إذا لم تكن ستخرس فمك فسأضربك حتي أكسر فكك. ما لهم المدرسون بهذه الحكايات. وتطور النقاش بين الشقيقين, فقال له أيمن: اتركني ولا شأن لك بي, أنا حر أقول ما أريد. وتعالت أصواتهما وبدءا يتشابكان بالأيدي فسمعتهما أبلة فاطمة من نافذة حجرة المدرسين فنادت عليهما ونهرت عبد الصمد علي فعلته قائلة: أليس لديك إحساس؟ فقال لها: وما دخل الإحساس في هذا؟ قالت: عجبي عليك أنت وشقيقك, إنكما مختلفان اختلاف الأبيض والأسود. ألم تكتشف بعد طول هذه السنين أن لك أما غير من كنت تتصور أنها أمك؟ قال: وما قيمة هذا؟ لقد ماتت منذ سنين وانتهي الأمر. لكن بالنسبة لأيمن لم ينته الأمر. لم يفاتح شقيقه الأكبر ثانية في هذا الموضوع, لكنه ظل يؤرقه سنوات طويلة مقبلة. مضت السيارة البيجو في طريقها إلي طنطا بعد فترة توقف تالية زود فيها السائق المحرك بالماء الذي كان قد تبخر علي ما يبدو أثناء السير. تذكر أيمن وهو يتابع السيارة كيف بدأت هذه الرحلة من بيت صديقه حسن.. في إحدي الليالي بعد أن انتهيا من استذكار دروسهما جلس الصديقان أيمن الحمزاوي وحسن الليثي في شرفة منزل حسن حتي يستطيعا التدخين دون أن يشعر بهما أهل البيت, وحين تطرق حديثهما إلي الموضوع الذي كان يؤرق أيمن قال له حسن: عليك أن تنسي هذا الموضوع, إن من ماتوا لا يعودون, فلا تعذب نفسك بلا طائل. فقال له أيمن: إن ما يعذبني هو أنني لا أعرف شيئا عن أمي, لو أنني عرفت من هي لاسترحت, لكني لا أعرف عنها إلا اسمها, ووالدي لا يريد أن يقول لي شيئا, إنني أكاد أجزم أنه يخبئ عني أشياء كثيرة. إنك لن تعرف يا حسن ما أشعر به أبدا لأنك تعرف كل شيء عن أسرتك ولأنك لم تفقد أحدا منهم. إنني أدعو الله أن يمد لك في عمرهم جميعا ويجنبك هذا الشعور المؤلم بأنك فقدت شيئا غاليا في حياتك. هو شعور بالضياع.. بأنك لا تعرف من أنت... وسكت أيمن قليلا وهو يسحب نفسا طويلا من سيجارته ثم عاد يقول: لو أنني أعرف قبرها.. لو أنني أعرف أقاربها لسألتهم عنها لأعرف متي ماتت وكيف ماتت.. ربما كان لديهم صور لها.. إنني لا أعرف شكلها.. ولا أعرف كيف لا يوجد لدي أبي أي صورة لها.. ألم يأخذا صورة لزفافهما أو لأي مناسبة أخري جمعتهما؟ أريد أن أعرف شكلها لابد أن هناك في وجهي ما يشبهها, ربما كانت هناك قسمات من وجهها لا تزال تعيش في وأنا لا أعرف. ربما كان في طباعي ما أخذته عنها. إنني امتداد لها مثلما أنا امتداد لأبي, لكني لا أعرفها, ولا أعرف أي شيء عنها. كأني لا أعرف نفسي. كان أيمن يهوي القراءة, وكان اسم الأم في أي كتاب أو مقال يثير في نفسه الشجون. زار في أحد الأيام معرض الكتاب مع مجموعة من زملائه بالمعهد, فوجد في أحد أقسام الكتب المستعملة رخيصة الثمن كتابا يحمل اسم الأم فاشتراه علي الفور. حين عاد إلي البيت وجده يحوي روايتين لكاتبة إيطالية لم يكن قد سمع بها اسمها جراتسيا ديليدا حصلت علي جائزة نوبل عام1926. كان موضوع الروايتين هو علاقة الأم والابن. بعد ذلك اشتري من سور الأزبكية رواية أخري باسم الأم للأديب الروسي مكسم جوركي, ومسرحية لبريخت بعنوان الأم شجاعة لكنه لم ينفعل بها كثيرا. من خلال الروايات كان يعيش علاقة الابن بالأم, تلك العلاقة التي لم يعشها في حياته. سكت حسن متأثرا بحديث صديقه. صمت برهة احتراما لتلك الدمعة التي لمحها تترقرق في عينيه وسط أضواء الشارع وهما جلوس في الشرفة المظلمة. أخذ حسن النفس الأخير من سيجارته ثم قال لأيمن وهو يطفئ السيجارة علي حافة الشرفة ويقذف بها إلي الشارع: ألم تقل لي إن لديك الاسم الكامل لوالدتك ؟ قال له أيمن: إني أحفظه عن ظهر قلب منذ كتبه والدي أمامي لعبد الصمد في أوراق بطاقته الشخصية قبل ما يزيد علي ست سنوات, فقال له صديقه: قد تستطيع والدتي مساعدتك في الوصول إلي أهل أمك عن طريق السجلات المدنية. تهلل وجه أيمن فتراجعت دمعته مفسحة الطريق لتلك الابتسامة الجميلة التي كانت تميز وجهه. كان حسن الليثي هو صديقه المقرب في معهد الدراسات التعاونية الذي التحق به بعد تخرجه في المدرسة, وكان كل منهما محل ثقة الآخر. كان حسن يحكي لأيمن عن حبه لهالة ابنة الأستاذ جرجس عبد الشهيد جارهم في الشارع بحي دار السلام, وكان أيمن يحكي لحسن عن حبه لسلوي العليمي زميلتهما بالمعهد. كان حسن شابا طيب القلب وكثيرا ما كان يدعو أيمن إلي منزله ليذاكرا دروسهما معا, وفي بعض الأحيان كان أيمن يبيت عنده, وكانت الحاجة حكمت والدة حسن سيدة بدينة تعمل بالسجلات المدنية وتعطف علي أيمن, فكانت كلما عرفت من حسن أن أيمن سيأتي معه إلي المنزل أعدت له أطباق الطعام التي كان يحبها. في تلك الليلة أحس أيمن أن حسن فتح له طريقا جديدا يخرجه من تلك الدوامة التي عاش فيها طويلا. لم يتركه إلا بعد أن وعده بأن يفاتح والدته في الأمر ليعرف إن كانت تستطيع بالفعل مساعدته في أن يستدل علي أمه. نزل من منزل صديقه وهو يسأل نفسه إن كانت العلاقة التي كثيرا ما قرأ عنها بين الأم والابن يمكن أن تصبح أخيرا حقيقة يعيشها مثل بقية البشر؟. (من رواية محمد سلماوي أجنحة الفراشة التي تصدر عن الدار المصرية اللبنانية)