كله إلا خيانة الوطن.. الخيانة..حية رقطاء تسلل في جوفها الشيطان إلي آدم وحواء, ليفسد براءة االأوصافب التي كانا عليها, فيرتكبان الخطيئة لأول مرة..ويعاقبان بالأشغال المؤبدة علي الأرض القاسية الغاضبة! وخيانة الوطن يكاد يكون هو الفعل الوحيد غير القابل للتسامح أو الغفران أو النسيان أو حتي الفهم! لكن في هذه المرة.. جريمة الخيانة من النوع الشائك, الكتابة عنها خطر كبير, مثل السباحة في مياه عميقة مع أسماك الباركودا المفترسة, وقد يظن البعض أنها نوع من الدفاع, بينما خائن الوطن لا يستأهل تفسير فعلته ولو من وراء القلب! ربما ما دفعني إلي المغامرة في هذا الدرب الوعر تحقيق صحفي كتبته ونشرته بالأهرام قبل ستة عشر عاما بعنوان ايوم في حياة عاطلب, حاولت فيه أن أرسم صورة لحياة العاطلينب, إذا جاز أن نصف ما يعيشون فيه بأنه حياة, لأن البطالة كما قال لي وقتها الدكتور محسن عرفان الخبير النفسي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- هي حقد وعدم وإحباط وعجز واكتئاب وحزن وانتقام وانطواء, باختصار هي قهر, والقهر بطبعه مهدد لأمن أي مجتمع! وقد عشت أياما مع عدد من العاطلين, سواء في الشارع أو المقهي أو البيت, خريجون من كليات مختلفة أدبية وعلمية: حقوق وآداب وآثار وتجارة وعلوم, كلهم يجترون مرارة أيام يتحركون فيها كما لو أنهم نفايات مهملة ملقاة علي الأرصفة, يتعجبون من مجتمع يتفرج عليهم مكتفيا بالتحسر علي أعمارهم وهي تتسرب منهم بالإكراه يوما وراء يوم, ويكاد يتعامل معهم علي أنهم ليسوا بشرا من لحم ودم, وإنما مجرد أرقام بالملايين مدفونة في دراسات أو تصريحات, الكل يتحدث عنهم, دون أن يحاول أحد أن يقترب من عالمهم التعس أو يتعرف علي اأحوالهمب المميتة! وفجأة وسط هذا الحوار البائس صرخ أحدهم وكان خريج حقوق قائلا: أقسم بالله العظيم لو أعرف اشتغل جاسوسا لاشتغلت, الوطن ليس سماء وأرضا وعلما ونشيدا وذكريات, الوطن عمل وأسرة ورغيف وحاضر ومستقبل وعدل وناس اتلاقيب نفسها! أرعبتني العبارة وصعب علي تصديقها بالرغم من االحرقةب المندفعة منها, وعملت كما عمل المجتمع واختزلت رد فعلي في تعليق يخفف من وقعها قلت فيه: قطعا سنعتبر هذه الكلمات الغاضبة انفعالا مبالغا فيه في لحظة يأس! لم أتخيل أبدا بأي حال من الأحوال أن يأتي وقت تهبط فيه العبارة المتمردة إلي أرض الواقع, وأطالع حكاية خائن منشورة في الجرائد, سعي أن يشتغل جاسوسا! إنه سوء تقدير مني وقتها..ويبدو أنه سوء تقدير من المجتمع كله الآن! أليس الغضب هو بداية الجنوح إلي فعل قد يصل بصاحبه إلي القتل أحيانا؟!..فما بالك لو أن الغضب كان مشحونا بقدر رهيب من احامضب الظلم الأشد فتكا من ماء النار؟! ورحت أقرأ قصة خيانة اطارق عبد الرازقب بشغف شديد, في حين ظلت الكلمات التي سمعتها قبل ستة عشر عاما ترن في أذني كصفير قطار لا ينقطع, فسألت نفسي: كيف تسلل شيطان الخيانة إلي اجنةب الضمير في نفسه فأغواه بالفعل المحرم؟!..ما الذي جري وألقي بالشر في حروف كلمات غاضبة قيلت في لحظة يأس, فتنقلب إلي حية رقطاء تلتهم مشاعر حب الوطن؟! قد لا نعثر علي إجابة شافية..لكن يمكن التخمين..والتخمين مثل الظن بعضه إثم, وبعضه من حسن الفطن! قطعا هو من القلة النادرة التي تتطوع من تلقاء نفسها لخدمة الأعداء دون أن يجنده عميل, ودون أن تنصب له أجهزة مخابرات العدو فخا من النساء والمال والأعمال القبيحة تصطاده بها فلا يستطيع الفكاك منها, إنه نموذج فريد في سجل الخونة, خائن سعي بملء إرادته إلي مستنقع الخيانة! ما الذي يمكن أن نفهمه من هذا التصرف؟! يخيل لي أن قراره بالخيانة صدم عقله فجأة واحتله مثل سحابة سوداء هبت من أعماق نفس مسحوقة نائمة علي بركان هائل من مشاعر إحباط اندفعت كسيل من الحمم, كاسحة من أمامها كل امعاني الوطنب التي نشربها مع لبن أمهاتنا وكلمات آبائنا وأناشيد الصباح في مدارسنا, وخرائط الحدود في كتبنا, وصلاة الفجر في مساجدنا, وأجراس المحبة في كنائسنا, وزرعت مكانها رغبة عارمة في الثأر والانتقام تشبه تلك الرغبة التي تتملك إنسانا أهين إلي درجة الموت, وهي حالة يفقد فيها صاحبها الرشد ويتصرف دون حرص أو تفكير أو رشاد! لا أعرف بالتحديد ما الذي كان يعتمل في نفس اطارق عبد الرازقب وهو يكتب رسالة إلكترونية يبعث بها إلي مقر الموساد ويعرض نفسه مثل بنات الليل في سوق الخيانة؟! إنه صاحب تعليم متوسط ومن أسرة كثيرة العدد تبدو مصرية قح مثل ملايين الأسر البسيطة في الأحياء الشعبية تعيش بالكاد, أسرة في حالها قد تكون منغلقة علي نفسها إلي حد, وهو نفسه شخص عادي منطو علي نفسه قليلا, ولا شيء يشير إلي هذه النهاية المذهلة! أي ظلم تعرض له في حياته وهو يبحث عن فرصة عمل؟ هل يمكن للمحبط إلي درجة اليأس أن يخون لينتقم من الوطن الذي يتصور أنه ظلمه؟! فإذا كان الجوع كافرا, وليس بعد الكفر ذنب, ألا يمكن أن يكون الإحساس بالظلم اخائناب؟! قطعا ليس كل اشخصب محبط هو مشروع جاسوس, فالوطن بالرغم من كل مشكلاته وأزماته يظل وطنا, ولا يفقد أبدا معناه, فالوطن هو فصيلة الدم لو كان مصابا باللوكيميا, هو نن العين لو عليه ذبابة سوداء, هو رائحة الجنة لو تسلل إليها الشيطان في جوف حية, هو طعم الحياة مهما كانت صعوبتها! هل فينا من يمص دمه ويخزق عينه ويهجر الجنة ويخنق الحياة؟! هذا هو الوطن..كما يجب أن يكون مهما حدث!