يأتي عيد ميلاد المسيح حاملا السلام الحقيقي الإلهي للبشرية, وتجسيدا حيا لمحبة الله للإنسان. أعلنت ليلة الميلاد رسالة السلام, في أنشودة الملائكة التي أحاطت بطفل المذود, ومازال صداها يتردد في فضاء كل عصر ومكان كما يتردد في ضمير كل انسان: المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة لوقا2:14. يحدثنا الكتاب المقدس في العهد القديم عن خلق الانسان, في تعبير بسيط وبصورة رائعة, تم الخلق عن محبة الله الفائقة, وعن إرادته الإلهية السامية: وقال الله: لنصنع الانسان علي صورتنا, كمثالنا, فخلق الله الانسان علي صورته, علي صورة الله خلق البشر, ذكرا وأنثي خلقهم وباركهم..( تكوين1:26 27) ويكمل: ونظر الله إلي كل ما صنعه فرأي أنه حسن جدا تكوين1:32 خلق الله الإنسان في حال من البرارة والنقاء, أهلا ليشترك في السعادة الأبدية, كائنا عاقلا حرا, سلمه أمانة الحياة, وسلطه علي الأرض وجعل منه خليفة له( تكوين1:29,27) عاش الانسان في سلام حقيقي في حالة اتحاد بالخالق, فكرامة الانسان وسلامه هما في اتحاده بالله, والطاعة له, والأمانة لشريعته, وللأسف خرج الانسان عن هذه الطاعة, تمرد علي خالقه وكسر شريعته, وحدث السقوط العظيم فشعر انه عريان من النعمة, محروم من السلام, ممتلئ بالخوف والقلق, وفي البعد عن الله تبدأ مأساة الإنسان بفقدان السلام. إن العالم اليوم جائع للسلام, ولن يجده إلا إذا رجع متحدا بالخالق, ممتلئا بالإيمان والرجاء, لقد فقد آدم ونسله سلامهم بالبعد عن المصدر والمبدأ والغاية, ولأن الله محبة مطلقة, فتح باب الرجاء لآدم ونسله بوعد إلهي صادق, بأن تتجسد هذه المحبة في مخلص من نسل حواء, يسحق رأس الحية وشرورها( تكوين3:5) يعيد السلام ما بين السماء والأرض, تتحد فيه محبة الله ونوره ولاهوته غير المحدود,مع طبيعته الانسانية الكاملة, وستكون رسالته أن يعيد الإنسان إلي حضن الله, إلي مكانته السامية, إلي المعني الحقيقي لخلقه وحياته علي الأرض. وولد المسيح, سلام الله للإنسان ونور العالم. في أنشودة الملائكة تتضح رسالة المسيح: وعلي الأرض السلام. يعلن بولس الرسول ان المسيح هو سلامنا, وان انجيله هو انجيل السلام( أفسس3:15,14:16). إنه يخبر بالسلام ويبشر به, كما سبق وتنبأ أشعيا(52:7) مع المسيح ولد سلام إلهي جديد, هو سلام المصالحة مع الله, أساسه العمل بوصاياه, والإيمان بحضوره في أعماق ضمير الإنسان, إنه يزرع سلاما في قلب كل انسان. هو الذي قال: لا تضطرب قلوبكم, أنتم تؤمنون بالله, فآمنوا بي أيضا( يوحنا14:1) وقال أيضا: سلاما أترك لكم, سلامي أعطيكم, لا كما يعطيه العالم أعطيه أنا, لا تضطرب قلوبكم ولا تفزع( يوحنا27:14). وسلام المسيح مصالحة مع النفس مثال وتعاليم المسيح, كما تخبرنا عنها الأناجيل المقدسة, هما دعوة لبناء ضمير نقي, ومدرسة للضمير, إن السلام الذي نادي به المسيح يرتكز علي سلام الإنسان الداخلي, وينبع من قلب طاهر, عامر بالمحبة. فقد أعاد المسيح للإنسان قيمته وكرامته التي فقدها ويفقدها بالإثم والمعصية, سعي دوما إلي ملء القلوب بالسلام الإلهي, من أجل الانسان ولد وعاش, صنع المعجزات وغفر الخطايا, ووعد في صدق انه يفتح باب السموات لكل من يعيش أمينا, ولكل من يرجع عن خطيئته ومعصيته بتوبة صادقة, صالح الانسان مع الله, فوجد الانسان السبيل للمصالحة مع نفسه, صار يقبل نفسه, لأنه يقبل إرادة الله فيه, عارفا ان الله دائما يعمل كل شيء لخير الذين يحبونه) رومة8:28). وسلام المسيح مصالحة لجميع الناس في المحبة والصفح ميلاد المسيح نقطة انطلاق لتغيير جذري في العلاقات بين الناس. بمثاله وأقواله علمنا ان المحبة هي أساس التعامل الصحيح بين الناس لأن الإنسان أخو الانسان. وعلمنا المسيح ان المصالحة بين الناس تتطلب نبذ العنف, والصفح والمغفرة, قال: لا تنتقموا ممن يسيء إليكم( متي5:38:). أحبو أعداءكم, أحسنوا إلي مبغضيكم, باركوا لاعنيكم, صلوا لأجل المسيئين إليكم( لوقا6:27 28) علمنا المسيح نعمة المغفرة, وبفدائه غفر هو أولا خطايانا وغسلنا من آثامنا, وفتح باب المغفرة, للخطأة أجمعين, ودعانا أن نصلي للآب قائلين: إغفر لنا ذنوبنا, كما نغفر نحن للمذنبين إلينا, إن المصالحة في الصفح عطية إلهية, يهبها المسيح لمن يريد السلام الإلهي, وبذلك يلغي المسيح خوف الانسان من أخيه الانسان, ويؤسس سلاما إلهيا لم تعرفه البشرية من قبل, يشمل الجميع, فيوصينا بولس الرسول: اتبعوا السلام مع جميع الناس( عبرانيين12:14). وسلام المسيح يتطلب العدل ومساعدة الفقراء والمحتاجين لا يتحقق السلام إلا إذا ساد العدل بين الناس, وفي يوم السلام العالمي, أول يناير2002 حملت رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني هذا العنوان: لا سلام بدون عدل مؤكدة ان العدل هو عماد وأساس السلام الحقيقي, ومن متطلبات العدل ان ينال الفقراء والمحتاجون حقهم في العون والاهتمام, وعلمنا المسيح ملك السلام ان ميزان الحكم في الدينونة الأخيرة هو موقفنا من هؤلاء, وسماهم اخوته الصغار كل ما عملتموه لواحد من اخوتي هؤلاء الصغار فلي عملتموه.. وكل ما لم تعملوه.. فلي لم تعملوه( متي25:40 و45). نعم, سلام المسيح هبة إلهية, إلا أنه عمل دائم وجهاد لا يقطع للخير والمحبة, فالسلام بين الناس وفي العالم لم يتحقق دون مساهمة كل إنسان, لأن الذي يمتلك قلبا منفتحا لله, وإرادة عاملة للخير, يعطي ثمار الروح ومنها المحبة والفرح والسلام) غلاطية22:5) يشغل السلام الشخصي والاجتماعي والدولي اهتمام الكنيسة الكاثوليكية في كل زمان ومكان, وقد أفردت له مؤخرا مكانا خاصا واهتماما كبيرا, ففي مجمع أساقفة الشرق الأوسط, الذي انعقد في الفاتيكان في اكتوبر الماضي, وضم350 عضوا, برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر, درس المجمع القضايا الملحة التي تواجهها مجتمعاتنا اليوم, وأهمها السلام, وأكد ان السلام هو ثمرة المحبة, والعدل والمساواة, واحترام كل انسان, وان كل مؤمن عليه رسالة العمل من أجل السلام ونشر السلام. وفي التوصيات النهائية يخصص المجمع بندا للعلاقة مع الاسلام, يؤكد فيه: يتشارك المسيحيون والمسلمون معا في الشرق الأوسط في الحياة والمصير, ومعا يبنون المجتمع, لذلك من المهم تعزيز مفهوم المواطنة, وكرامة الشخص البشري, والمساواة في الحقوق والواجبات, والحرة الدينية التي تتضمن حرية العبادة وحرية الضمير. وعلي المسيحيين في الشرق الأوسط أن يثابروا علي حوار الحياة المثمر مع المسلمين, ولذلك فإنهم ينظرون إليهم نظرة تقدير ومحبة, رافضين كل أحكام سلبية مسبقة ضدهم, وانهم مدعوون الي ان يكتشفوا معا القيم الدينية عند بعضهم البعض, وهكذا يقدمون للعالم صورة عن اللقاء الايجابي, وعن التعاون المثمر, بين مؤمني هاتين الديانتين, من خلال مناهضتهم المشتركة لكل أنواع الأصولية والعنف باسم الدين( رقم42). وفي هذا التوجه أعلن قداسة البابا بندكتوس16 ان موضوع رسالته لليوم السلام, في أول يناير2011 سيكون الحرية الدينية, طريق السلام. نصلي في هذا المساء المبارك, متحدين مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر, وجميع اخوتنا البطاركة والأساقفة, نلتمس من الله تعالي ان يحفظ الله مصر دائما في خير وأمن, وأخوة وحب وسلام, وليمنح الرب البلاد المتألمة في منطقتنا سلاما واستقرارا, ولاسيما فلسطين والعراق ولبنان والسودان, وليغمر سلامه الإلهي كل بلاد العالم, لتصير البشرية أسرة واحدة تنشد مع الملائكة المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام