علي مدي ما يقرب من عشر سنوات تشكلت ظاهرة يسري فودة, أصبح النجم الأول ببرنامجه سري للغاية, بعد فترة قليلة كان فيها مسئولا عن مكتب الجزيرة في لندن, قدم حلقات لافتة من بينها: حلقة عن طائرة مصرية سقطت في الأجواء الأمريكية, وأخري عن الأسري المصريين ومقتلهم بيد الصهاينة, وثالثة عن مقتل يحيي المشد, ورابعة عن مقتل المشير عامر, وسلسلة حلقات عن القاعدة, تسلل إلي مخابئهم وعاش بين خلايا التنظيم, وكشف أسرارا ظلت لسنوات طي الكتمان, نبع نجاح فودة من روافد عديدة, كان قادرا علي مواكبة الحدث, فحينما تظهر حركة المؤرخين الجدد في إسرائيل ومعها فضائح جرائم الحرب لا يضيع الفرصة ويقدم فيلما عن الأسري, كان من الصحفيين العرب الرواد في فهم ماهية الاستقصاء والتحري, يعبر بنفسه فوق الألغام ويجري أمام كلاب الصحراء في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق ليظهر للجمهور كيف يتسلل الأصوليون والانتحاريون. ومع القدرة علي الاستقصاء والمواكبة امتلك موهبة استثنائية في الإلقاء والتغني باللغة, أعادنا معها لعصور سابقة امتلك فيها المذيع ناصية العربية, بين سطور حكيه كان يظهر محمود درويش وأمل دنقل والأبنودي, توازي كل ذلك مع موهبة أخري في كتابة السيناريو الوثائقي والإخراج التليفزيوني, يختلط الحدث الجذاب بلقطات مدهشة, يطل من الخلفية غناء عبد الحليم أو كاظم الساهر أو شدو عمر خيرت, ووسط جرعة المتعة ينادينا صوت فودة الرخيم لنتذكر الموضوع. بعد النجاح ربما شعر فودة بالرغبة في الراحة, استقال من الجزيرة, التحق بقناة مصرية وليدة هي أون تي في يقدم حلقة أسبوعية من برنامج أسماه آخر كلام, ظل البرنامج باهتا لم يحقق نسب مشاهدة عالية, برر بعض محبيه الأمر بأن الرجل يقدم إعلاما مهنيا غير زاعق فيما ينصرف الناس إلي مصارعة الديوك, وقال آخرون إن الأمر يرجع إلي كون الجزيرة لها جماهيريتها, تخطت مرحلة الطفولة الإعلامية وشبت عن الطوق أصبحت القناة ذاتها لها نجومية تنعكس علي مقدميها وليس العكس, ومن يخرج منها كأنه خرج من الجنة, برر فريق ثالث الأمر بأن الرجل لم يجد إنتاجا ضخما شبيها بما كان في فترات تألقه, وهي تبريرات برأيي غير منطقية, فلم يكن فودة نفسه وقت توهجه يقدم ما يتنافي مع المهنية, وحجة الإنتاج الضخم ليست سليمة لأن بعض حلقاته السابقة لم تتكلف كثيرا ومنها حلقة المشير عامر مثلا, وهناك نجوم حققوا شهرة واسعة في قنوات وليدة, بل بعضهم أشهر من القناة نفسها, عمرو أديب وأوربت علي سبيل المثال. الأمر إذن له علاقة بفودة نفسه, هو رجل تمرد علي النجاح, اختار بمحض إرادته منطق المعاش المبكر, يقابل ضيوفه بين الوسائد المريحة والتكييف المركزي, ويستقبل تليفوناته, نعم يحافظ فودة علي معايير مهنية صارمة, يستطلع رأي جمهوره علي الفيس بوك في موضوع الحلقة, يختار مصادر من العيار الثقيل مثل مايكل شوير رئيس وحدة متابعة بن لادن في المخابرات الأمريكية, أو روبرت فيسك, أو حتي أصحاب المكانة المرموقة ثقافيا في الداخل كالدكتور جلال أمين وعلاء الأسواني, لكن الجمهور تعود منه علي الطلة الميدانية, علي الاستقصاء والسيناريو المحبوك, علي لغته الراقية الذائبة في خلفيات جذابة, يمرر خلالها آراء نخبوية معقدة في قوالب شعبية. الجمهور ليس في حاجة إلي هواتف جديدة وضيوف ينظرون في الغرف المكيفة تغرقه برامج التوك شو, تصيبه بالملل تليفونات المشاهدين علي كثرتها. في استطلاعات المشاهدة لا يحتل فودة رقما متقدما كأكثر البرامج مشاهدة, وحجة مطربي الموسيقي العربية المشككين في ثقافة الجمهور ووعيه لا تجدي هنا, فالجمهور ذاته هو الذي دشن فودة نجما قبيل فترة بسيطة.. قبيل أن يختار بمحض إرادته المعاش المبكر.