أخذت أستمع إلي حفيدي صاحب الاعوام السبعة وهو عائد من زيارة طبيب العيون الذي قرر ضرورة احتياج الصغير إلي نظارة طبية, وكان سؤال الحفيد هل ستساعدني النظارة الطبية علي مقاومة الزهق وأنا أذاكر دروسي, ولاتجعلني أشكو من كثرة الواجبات المدرسية؟ وأصابني ذهول مؤقت بسبب استخدام الحفيد لكلمات أكبر من عمره بكثير, لعل أهمها قوله مقاومة الزهق. هنا كان لابد من استشارة من أثق في صدق أمانته وهو أستاذ الطب النفسي الكبير محمد شعلان, ولم يأتني صوته بل صوت زوجته الدكتورة عنايات وصفي التي أخبرتني بأنه خارج لتوه من غرفة العمليات بعد شفط كمية من الدم الناتج عن نزيف مفاجئ بالمخ, وأصابني الجزع علي عالم أضاف لنا كثيرا, فهو أول من أدخل تخصص الطب النفسي للأسرة من خلال تأسيسه قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر, وعلي الرغم من علمي أن محمد شعلان يسير في ردهات عامه الرابع والسبعين, إلا أني كنت أراه دائما أكثر شبابا بحكم أمانته العالية التي جعلت علي سبيل المثال مالا يقل عن خمسين ألف ياباني يصفقون لكلماته لحظة أن ألقي خطاب السلام في ساحة نجازاكي التي تلقت واحدة من قنبلتين ذريتين, بعد أن استخدمت الولاياتالمتحدة السلاح الذري لتؤكد تفوقها الكوني, صفق اليابانيون لمحمد شعلان عندما تحدث في ذلك الاحتفال السنوي منذ أعوام عن ضرورة بناء السلام النفسي للأفراد والمجتمعات في آن واحد, وتضافر المشهد مع قاعة المحاضرات الرئيسية في جامعة هارفارد عام0991 وكان هو المحاضر عن ضرورة تأسيس دراسات جديدة لتدريب أي منا علي قبول الاختلاف مع غيره دون ضغينة, وضرورة اختلاف رؤيتنا للحاضر والتي يجب أن تتميز عن رؤيتنا للماضي دون أن نهمل إيجابيات الماضي, ونستأصل سلبياته أثناء اقتحامنا للمستقبل. وأسرعت إلي زيارته بالمستشفي حين سمح أطباؤه بذلك, وحمدت السماء لأني وجدته في حالة من طمأنينة أزالت عني الجزع عليه; رغم خطورة جراحة المخ التي أجراها, ولم أجد حرجا في سؤاله هل تصلح النظارة الطبية للطفل وتحسن من قدرته علي الرؤية وتساعده علي مقاومة الزهق من الواجبات الدراسية؟ أجابني ضاحكا: نعم فرؤية الواقع بعيون ذات بصر قوي تجعل البصيرة أيضا قوية, والنظارة الطبية لاتقاوم زهق الصغار فقط عند مواجهة المسئوليات بل تقاوم أيضا زهق الكبار حين تصلح أمامهم رؤية الواقع كما هو, وما أحوج بعض المجتمعات إلي نظارات طبية لتصنع رؤية صحيحة للواقع فتدخل إلي المستقبل وهي واثقة من قدراتها. وامتزجت كلماته برأي رئيس أقسام طب الأطفال بجامعة نورث كارولينا د.عثمان جلال الذي كثيرا ما أكد لي ضرورة إجراء الكشف الطبي علي عيون كل طفل من عمر الخامسة أو السادسة لنجعله يري الواقع علي حقيقته دون زغللة أو ضبابية, وسنلحظ انعكاس ذلك علي الكثير من سلوكيات الطفل, فيقل توتره, وتظهر قدراته الفعلية علي التحصيل الدراسي في المدرسة الابتدائية حين يلتحق بها, وستزيد قدرته علي تنمية ثقته بنفسه, وكثيرا ماحذرني د.عثمان جلال من ترك أطفالي فريسة للألعاب الإلكترونية تلك التي كانت قد بدأت تغزو الأسواق في الخمسة والثلاثين عاما الأخيرة, قبل أن يسود الكمبيوتر وتنتشر ألعاب كثيرة علي شاشة التليفون المحمول, فتلك الألعاب تحول أعماق الطفل إلي ساحة للتوتر, وقد تكون فائدتها الوحيدة هي التعود علي ضبط حركة الأصابع التي تحرك الصور علي الشاشة الصغيرة أو الكبيرة, لكن أهم أضرارها هي أنها تترك الأعماق مزدحمة بالقلق والتشتت, وحين نقلت هذا الرأي إلي محمد شعلان وهو في حجرة الاستشفاء, أضاف لي بأن علينا ألا ننسي أن الاعتماد علي الكمبيوتر وحده في تقدير وقياس الحقائق قد يحمل في طياته جمودا ناتجا من عدم قدرة الكمبيوتر علي نقل المشاعر الانسانية, لذلك علينا ألا نقبل تغييب أنفسنا وأطفالنا في التجريد الذي يفرضه علينا الكمبيوتر أو ذلك السفر التائه إلي العالم الافتراضي الكوني, بل علينا الحرص علي إتاحة الفرص لأنفسنا ولأطفالنا كي نتفاعل مع الواقع ونقبله كما هو, لندرس ما الذي يمكن أن نغيره فيه. ثم حذرني الطبيب الكبير أيضا من أن أترك آذان الأطفال فريسة للضجيج الموسيقي الصارخ والذي انتشر أيضا في الأعوام الأربعين الأخيرة, ونصحني بمحاولة مشاركتهم في سماع الموسيقي الكلاسيكية, حيث تعيد الأعماق ترتيب نفسها وتذكاراتها وحصيلة معلوماتها علي ضوء الانسياب المدروس للموسيقي في أعماق من يستمع لها, وضحكت حين تذكرت سطورا من كتاب ثقوب في الضمير للصديق د.أحمد عكاشة, ذكر فيها أن د.ثروت عكاشة المثقف الراقي نصح جمال عبد الناصر بالاستماع إلي بيتهوفن بعد الهزيمة الماحقة عام7691, لعله يخرج من المشاعر المتضاربة التي اجتاحته بعد تلك الهزيمة. ورحلت ذاكرتي فيما كان يؤكده لنا العالم الراحل د.سعد جلال أستاذ علم النفس بأن الزهق يمكن اعتباره إحدي أهم أدوات تنبيه الإنسان إلي حقيقة التصادم بين قدراته وبين متاعب الواقع الذي يواجهه, وأن البصيرة المناسبة مع قوة البصر الملائمة تجعل الإنسان غير خائف من عقبات المستقبل. وهنا أيقنت أن الحفيد امتلك بصيرة استكشاف السؤال الذي يبدو صغيرا ولكنه غير تافه, فقد نبع التساؤل من تحسب ابن السابعة إلي الحد من حريته حين يستخدم نظارة طبية والتي ستجعله حريصا أثناء لعبه مع أقرانه, ولكنها أيضا ستجعله قادرا علي مواجهة مايشكو منه وهو الزهق من كثرة الواجبات المدرسية.