منظر مصري وهو يهش العيال وينشهم. جعل الصول يري الأولاد ووالدهم وأمهم كأنه يراهم لأول مرة. نظافة وأبهة وجمال. نظر لهم الصول وتساءل: هل جعلتهم الحياة في هذا المكان يبدون كأنهم أولاد باشوات؟ أم أن النظافة جملت منظرهم في عيون الناس؟ أم أن الأكل والمرعي وقلة الصنعا أضفت عليهم منظرا مغايرا عن أيام الحجز. كان الصول يسمع أمه تقول: - إن خفت عليك المونه عليك بالليفة والصابونة. قارنهم في عقله, وفي محاولة صامتة للهروب مما ينتظره. بمن يراهم من جيرانه. في العزبة البعيدة التي يعيش فيها. يركب أكثر من مواصلة في الذهاب والعودة. لولا أن كارنيه البوليس يعطيه الحق في ركوب المواصلات بدون أن يضع يده في جيبه لأنفق كل دخله علي المشاوير. اكتشف الفارق الكبير بين من يراهم الآن ومن يتهرب من رؤيتهم من جيرانه صباحا ومساء عند خروجه وعند عودته. أوشك منظر الأولاد أن يعقد مهمته. كيف يطردهم من الجنة؟ هل يقول لهم اهربوا بسرعة من الجنة الملعونة؟ أينذرهم؟ هل يقول لهم إن الاستمرار هنا قد يخرجهم من الدار للنار؟ من السكن للسجن؟ وكلاهما تابع لجناب الباشا الضابط. أم يقول لهما من باب التهديد والوعيد فقط أن الباشا كبير؟ في أي مكان من بر مصر له صديق حميم. الباشا صاحب القصر يمكن القول أنه صاحب مصر وليس صاحب الحجز وصاحب القصر فقط. بالمختصر المفيد هل يقول لهما- مصري وفرحة:- أينما تكونوا يدرككم الباشا. احتار واندار, وازدحمت الكلمات بداخله. ولم يعرف بأيها يبدأ. وأيها يؤخره لآخر المتمة. وتمني للحظة عابرة, لو أن حضرة الباشا كلف غيره بهذه المهمة. اقشعر بدنه لكلمة غيره وزغلل نظره. هل يفقد حظوته عند الباشا وبهذه السرعة. لو كان عند الباشا غيره. فماذا بقي له إذن؟ يحوط علي الباشا من لحظة وصوله للمكتب. حتي انصرافه منه. لو لاحظ أن الباشا ابتسم لغيره يجافيه النوم. وإن تكلم مع صول أو شاويش سواه يفقد الرغبة في الطعام. وقد يكلم نفسه بهلوسة لا يفهم معناها. استهول حاله. هل رضا الباشا من رضا الله؟ قال لنفسه: - أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. قالها وضرب كفا بكف. مما حير من حوله. لا مصري ولا فرحانة فهما لماذا يستغفر الله وهو جالس بينهما. يعرف الصول من كثرة عشرته للسادة الضباط أن الإنسان عندما يبدأ من آخر الكلام يصل للفائدة التي يرجوها من وراء الحديث. دون وجع دماغ باللت والعجن في الفاضية والمليانة. لا يعرف من أين أتت الكلمات. أو هلت علي خاطرة. وجد حضرة الصول نفسه يقول: - يا تمشوا بالتي هي أحسن. بلع ريقه بصعوبة وهو يكمل: - ويا دار ما دخلك شر. أدرك كذبه غير الأبيض. وهل يجرؤ الشر أي شر كان أن يهوب نواحي هذه الدار؟ شرور الدنيا لا تعرف إلا دور الغلابة والمساكين. أما دور ناس العلالي. فلا يعرف الطريق إليها إلا كل ما هو خير. توقف عن الكلام ليلاحظ رد فعل الكلام عليهما. لم يكن يعرف الكلمة التالية بالتحديد. ولكن سوابق تعامله مع مثل هؤلاء الناس جادت عليه بكلمات شكلت أمام الجميع نهاية منطقية للأمر. ختام يخيف من لا يخاف من حضرة الضابط. قال لهما: - يا كعب داير. مصري لم يستوعب ولم يرد. لا يعرف معني الكلمتين إلا من قضي نصف عمره- علي الأقل- في الأقسام. فرحانة هي التي خبطت صدرها الوافر بيديها مرة واحدة. غاصت اليدان في نهدين يشيعان حولهما حالة من البهجة والإحساس بالوفرة. نظر الصول لداخل الغرفة ورأي السرير والمرتبة والمخدة وأدوات الطعام وأكواب الشاي وتساءل: أين كانا وكيف أصبحا؟ ثم فرض السؤال نفسه عليه: - وإلي أي مصير ستتجه بهما الظروف؟ لم يردا عليه. حاول الصول الهروب من لحظة الصمت المفاجئة. سأل فرحانة بلسان ينزلق عليه ود مفاجئ: - ما سبب معرفتك بالكعب الداير؟ قبل أن تجيب فاجأها بسؤال جديد: - هل قمت به من قبل؟ هل قام به واحد من أهلك؟ تراجعت أمام أسئلته. قال لنفسه مواصلا هجومه الذي لا يعرف من أين أتي: فرصة وجاءته من حيث لا يدري حتي يعرف ما تحاول إخفاءه عنه. أوشك أن يقول لها: - إحكي لنا. عندما كان يمسك النوبتجيات في أقسام البوليس. ويأتي له من يشكو أو من تشكو والليل يخر عن آخره. يصنع كوب الشاي في غلاية موصول بها سلك كهرباء. يمنح الواقف أمامه فرصة الجلوس. يتذكر الآن أنه كان يترك الدرج نصف مفتوح ليضع فيه الشاكي أو المشكو في حقه أو شاهد الإثبات. أو شاهدة النفي أو شهود الزور ما معهم. يقول لمن أمامه. بعد أن يجلس: -- إحكي لي حكايتك. يسأله:- من فين؟! يشخط فيه:- أنا اللي أسأل. ثم يجيب علي السؤال الذي رفضه: - إحكي من طقطق لسلامو عليكو. ثم يقول متفكها وحالة من الزهو بنفسه تبدو عليه:- هو أنا ورايا المحابيس حافكها لكن الموقف لا يحتمل حكايات. المطلوب أن يعود للباشا ويبلغه بإتمام المهمة علي أكمل وجه. وستكون أفضل مهمة في حياته كلها. لأنها تمس بيت الباشا الضابط الكبير. وأهل بيته. التي لا يعرف الصول سوي أن إسمها الملكة. ولا يعرف إن كان مجرد إسم أم أكثر من هذا