بهدوء شديد سأل مواطن مثقف صديقه الفيلسوف: ماذا يحدث في مصر؟! أجاب الفيلسوف: التشخيص في غاية الأهمية حتي نحدد الطريق الذي نمضي فيه, لكن التشخيص ليس أمرا سهلا بالمرة! غرق المواطن في ضحكة طويلة حتي شهق وكاد يلفظ أنفاسه: يخرب حمارك يافيلسوف.. أولا: هذا السؤال بالذات يكاد كل المصريين يجيبون عليه ويفتون فيه بسهولة متناهية, حتي لو نحت إجاباتهم بعيدا عن التفكير العلمي المنظم واكتست بالانطباعات والانفعال والغضب, وكلها مشاعر نابعة من أوجاع ومشكلات أيام حياتهم الحالية.. ثانيا: لايريد الناس أن نفلسف لهم الواقع بقدر ما يريدون أن نشعل لهم ضوءا يبدد بعضا من ظلام هذه العتمة. رد الفيلسوف: أي تشخيص صادر عن شخص أو جماعة أو حزب هو محمل بالضرورة بأفكار قائلها, والأفكار هي في النهاية مصالح يريد الحفاظ عليها أو تحقيقها, وأيضا هي تصورات خاصة في الاصلاح الذي يسعي إلي دفع البلاد إليه, ولهذا سنجد تشخيصا ليبراليا وآخر يساريا, وثالثا دينيا وهكذا! قال المواطن: إذن نتعامل مع أي تشخيص وعيوننا في رأسنا حتي لا يجرجرنا شخص أو جماعة أو حزب إلي سكته هو.. ومصالحه هو! قال الفيلسوف: هذا ضروري.. خاصة أن الأزمة معقدة ومتشابكة ولها جانبان, داخلي يفرز عوادمه الملوثة في السياسة والصحة والتعليم والثقافة والأحزاب والاقتصاد.. إلخ, وخارجي يتعلق بمصير العالم ووضعنا ودورنا في تحديد هذا المصير لأننا جزء منه, سواء رضينا أو أبينا! سأله: وكيف يتصرف المواطن البسيط إزاء فوضي الآراء والأفكار التي تجرف أمامها كل شيء؟! أجاب: كل هذه التشخيصات النسبية لا تتساوي في النهاية, لأننا يجب أن نربطها بمعيارين للفرز, الأول: أن يكون علي التشخيص شواهد مؤكدة له من الواقع, وال ثاني أن يتسم بالاتساق العلمي! قال المواطن: عدنا إلي الفلسفة.. والناس لا تفهمها بسهولة.. وتريد معاني أكثر بساطة! رد الفيلسوف: ليست هذه فلسفة.. وعموما ما أقصده هو أن أي تشخيص يجب أن يخضع للفحص, ولا يحصن نفسه مهما كانت مرجعيته ضد النقد, لأن النقد هو الأداة الوحيدة الكفيلة بتحديد أفضل تشخيص للأزمة التي نعيشها! قال المواطن: اضرب لنا مثلا. قال الفيلسوف: خذ مثلا بمن يحلل الأزمة السياسية ويرفع شعار إن الشعب غير مؤهل لتجربة ديمقراطية متكاملة, وأنه في حاجة إلي جرعات منها بالتدريج.. هذا كلام فارغ لا يؤيده واقع الشعوب, فلم يعرف التاريخ شعبا ترك جنب الحائط منزوع الحريات والديمقراطية إلي أن ينضج بحكم التقادم, ثم يتعطف عليه حكامه بالديمقراطية, التاريخ يثبت أن الشعوب لا تنضج إلا إذا دخلت التجارب وعاشتها ومارستها وتعلمت من أخطائها! قال المواطن: لكن فعليا في مصر لدينا جماهير كثيرة لا تعرف قيمة الديمقراطية وتتصور أنها مجرد تقليعة غربية.. وتحتاج إلي بعض الوقت! قال الفيلسوف: التجربة الكاملة تختصر الوقت, مثل معضلة الإنسان والسباحة, البعض يحبذ عدم نزوله إلي المياه إلا بعد أن يتعلم العوم, مع أنه لن يتعلم العوم إلا إذا نزل إلي المياه..! لا يوجد مايسمي الديمقراطية بالقطارة! والمجتمعات عموما ليست حالة واحدة, توجد مجتمعات تتحرك بوتيرة سريعة وأخري بوتيرة بطيئة حسب درجات التحضر والنضج الاجتماعي والسياسي, لكن في كل الأحوال لا يطلب من القادة السياسيين أن يتفضلوا بالديمقراطية علي شعوبهم, الديمقراطية هي دائما نتاج حركة شعب يسعي إلي حقوقه ويصر عليها! قال المواطن: لكننا لم نشخص حتي الآن الأزمة.. ولو فرضنا أنك قادم من الفضاء وطلبت منك أن تصف الأحوال في مصر.. فكيف تصفها؟! قال الفيلسوف: أي نظرة سريعة ترصد أنها بلد مفارقات عجيبة.. أولا: حالة انفعال سياسي شديد, والإنسان عموما لا يستطيع أن يتحمل حالة انفعال حاد كالغضب الشديد والفزع.. الخ, أكثر من دقائق قليلة, نفس المسألة في حياة الشعوب, فترة انفعالات قصيرة يعقبها استقرار علي وضع يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا, لكن مصر فيها انفعالات عصبية متصلة لأكثر من عامين, مظاهرات واعتصامات وصراخ وضجيج وصخب سياسي علي أشده! سألت: ولماذا لم يستقر المجتمع علي أي وضع؟! أجاب: بسبب فجوة هائلة ما بين ما يقال وما نريد, وما يمارس ونعيش فيه, مثلا نتكلم عن مشاكل الناس في الحياة اليومية, ولا نحلها فقط نطاردها ونخفف منها حين تتفاقم إلي درجة خطيرة علي استقرارنا, وهذا الانفعال الحاد ليس نتيجة قلة عقل أو فقدان السيطرة علي الذات, لكنه مؤشر علي احتداد الأزمة التي نعيشها! قلت: هذا وضع مخيف يجعل الرؤية غائمة! قال: بالطبع.. خاصة أن هناك شعارا شديد الخبث والخطورة ترفعه بعض الجماعات الآن في نقد النظام السياسي الراهن وهو أننا وصلنا إلي الأسوأ وليس هناك أسوأ من ذلك, وخطورة هذا الشعار أنه يحاول أن يلغي الحذر عند الناس, وسيب اللي يجي يجي أو أي حد يجي, والحذر من حق الناس لأن دائما هناك الأكثر سوءا لو تخلي الناس عن الحذرولم يختاروا بوعي ودون بصيرة, وحين أقول للناس إن عليهم الحذر من هذا الشعار لا أقصد الدفاع عن الأحوال الحالية, لكن عن مستقبل مختلف يمكن أن نحقق فيه نهضة حقيقية؟ سأل المواطن: هل تقصد شعارات دينية أم سياسية؟ أجاب الفيلسوف: أقصد الاثنين, لكن مثلا شعار الإسلام هو الحل أخطر من شعار الديمقراطية بالتدريج, لأنه محصن بالدين في مجتمع محافظ! سأل المواطن: وماذا نفعل يا فيلسوف؟ أجاب: تدارب البشر معروفة والطريق معروف, وينقصنا فقط إرادة المشي فيه. وانقطع الحوار المزيد من مقالات نبيل عمر