قلت إن عملية إنقاذ الثقافة المصرية من الوضع الكارثي الذي وصلت إليه لن تنجح إلا إذا صدقت النوايا, وحسمت القيادة السياسية أمرها في اختيار ثقافة الدولة المدنية الحديثة ودعم حضورها, ويبقي أن أضيف إلي ذلك أن صعوبة عملية الإنقاذ وتعدد جوانبها وتشابك علاقاتها, يفرض ضرورة وجود جبهة إنقاذ ثقافي, أو حتي ائتلاف وطني بين القوي صاحبة المصلحة في تمكين وجود الدولة المدنية وإشاعة نوع الثقافة الذي يلزمها ويعمل علي تطويرها. ونحن لا نخترع شيئا جديدا عندما نقول إن تزايد حجم الخطر الواقع علي الأمة يفرض تكاتف أبنائها جميعا في مواجهته, مستلهمين التاريخ المصري الذي كان يفرض ضرورة وجود حكومة ائتلاف وطني بين حزب الأغلبية( الوفد في الماضي) وأحزاب الأقلية, ولا أزال أذكر حكومة الائتلاف الوطني التي طالب بها عقلاء الأمة لمواجهة ديكتاتورية الملك فؤاد, وكان من نتائج هذه المطالبة الائتلاف الذي تم بين الأحرار الدستوريين برئاسة عدلي يكن والوفد برئاسة سعد زغلول, وقد تولي عدلي يكن رئاسة الحكومة وسعد زغلول رئاسة البرلمان, وذلك بعد سقوط حكومة زيور باشا الذي أدرك أنه لاشئ يعوق صعود الحركة الوطنية, وكانت النتيجة عودة العمل بدستور1923 الذي ظل حصنا للحركة الوطنية وحماية لحرية العقائد وحق التعبير والاختلاف, وقد أثبت الدستور حضوره عندما حمي طه حسين من بطش القوي الرجعية والسلفية التي تحالفت عليه, عندما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي سنة1926, فقامت الدنيا ولم تقعد, فاضطرت الحكومة, بعد طلب البرلمان, إلي تحويل الكتاب وصاحبه إلي النيابة للتحقيق, وتولي التحقيق رئيس النيابة العمومية محمد نور الذي حفظ الشكاوي المقدمة وتولي تبرئة المؤلف الذي كتب ما كتب علي سبيل الاجتهاد, مدركا أن حق الخطأ في الاجتهاد حق أصيل في الإسلام, وحق أصيل يحميه الدستور الذي نص علي حرية التفكير والتعبير والتغيير, وهكذا, خرج طه حسين من المحنة, ونجا من العقاب المشين الذي تعرض له صديقه علي عبدالرازق قبل أشهر معدودة, حين أطاح بأحلام الملك فؤاد, وكان ينافسه عبدالعزيز بن سعود, في حلم وراثة الخلافة العثمانية التي سقطت سقوطا مدويا بقيام الجمهورية التركية بقيادة كمال أتاتورك علي أساس من الفصل الحاسم بين الدين والسياسة, وقيام جمهورية مدنية أساسها الدستور والقانون, أي دولة مدنية ذات إطار مرجعي بشري, هو نوع من العقد الاجتماعي الذي يحقق مصالح الأمة وأمانيها الوطنية. واللافت للانتباه حقا أن حكومة الائتلاف الوطني( سعد, يكن) قد أعادت أهم مبادئ ثورة1919 الدين لله والوطن للجميع, وحققت المزيد من التقدم في تأكيد حضور الدولة المدنية, ولولا أني لست من أنصار تضخيم مبدأ المؤامرة والمبالغة فيه لقلت إن إنشاء جماعة الإخوان المسلمين في العام اللاحق علي وفاة سعد زغلول سنة1927 كان عملا لا ينفصل عن مسارعة أعداء الدولة الوطنية المدنية الصاعدة إلي أهم مبادئها الدين لله والوطن للجميع, ولذلك كان تكاتف أعداء الدولة المدنية في دعم حركة الإخوان المسلمين ليضربوا بها, أولا, الوحدة الوطنية الصاعدة, ويستبدوا, ثانيا, بحضور الدولة المدنية حضور دولة دينية تكون نواة لاستعادة الخلافة, ويقضوا ثالثا, علي أحلام الإنتلجنتسيا الوطنية في تأصيل لوازم الدولة المدنية الحديثة من فصل بين السلطات, وحرية التفكير والتعبير, وتدوير النخب السياسية, وتداول السلطة علي السواء, وخلع أي صفة قداسة عن الحكام والحاكمين الذين, إذا تركوا لأهوائهم, أشاعوا طبائع الاستبداد التي هاجمها عبدالرحمن الكواكبي في دفاعه عن الفصل بين الديني والمدني في الحكم, وإيمانه الذي شاركه فيه جمال الأفغاني ومحمد عبده ودفع ثمنه علي عبدالرازق, من أن الإسلام لم يحدد للمسلمين نظام حكم بعينه, وأنه ترك الأمر لاجتهادهم في صياغة النظام الذي يحقق مصالحهم, ويؤكد مكانتهم في التاريخ وبالتاريخ, وبما يقضي علي السلطة الدينية التي نفي الإمام محمد عبده وجودها في الإسلام. وظني الذي لا أزال عليه أن جماعة الإخوان المسلمين, شأنها في ذلك شأن جماعات الإسلام السياسي التي تفرعت عنها, أو تحالفت معها, أو وازتها في العمل والهدف, كانت العقبة الكأداء التي وضعها خصوم الدولة المدنية الوطنية المترتبة علي ثورة1919, وهي دولة جمعت طوائف الأمة( مسلمين وأقباط ويهود) لتحقيق الاستقلال الوطني تحت شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام, واستطاعت أن تفرض حضورها علي قوي الاحتلال وتصل إلي المرحلة الأولي من الاستقلال الوطني بمعاهدة1936 التي لم يتردد مصطفي النحاس في إلغائها لصالح الوطن فيما بعد, تأكيدا لأهمية استكمال الاستقلال الفعلي لا الصوري. ولم يكن من المصادفة أن يظل تحالف الإخوان مع حكومات الأقليات, ابتداء من الملك فاروق في نزوعه الاستبدادي, ومع حكومة صدقي, وأن تظل الجماعة علي عدائها للوفد الذي رفض زعيمه النحاس ان يقسم الملك فاروق يمين الولاء في الأزهر, مصرا علي أن يقسم الملك يمين ولائه لأمته في البرلمان الذي هو حصن الدولة المدنية وفضاؤها التشريعي الذي يستمد سلطته من الشعب, مؤمنا بشعار سعد الحق فوق القوة, والأمة فوق الحكومة, وهو شعار مدني حال دون الإخوان ودخول البرلمان أيام النحاس قسم وأستاذه سعد في زمن الوفد الجميل الذي مضي قبل أن يأتي زمن يتبدل فيه الرجال, وتتغير الأحوال, ولكل موضع مقام. وما يعنيني, في هذا العرض التاريخي, هو تأكيد ثلاثة أمور, أولها أن الأوضاع الكارثية التي وصلت إليها الثقافة المصرية تفرض تكاتف الجميع لمواجهتها: الدولة ممثلة في الحكومة والمجتمع المدني, والأحزاب وكل من يسهم في مواجهة هذا الوباء الخطير الذي سمح لداعية( يزاعم أنه إسلامي) بالمطالبة بمطاردة الأقباط وإيذائهم, وسمح لجاهل مثله أن يطالب الشباب بتدمير الأوثان( التماثيل) الفرعونية لأنهم مثابون علي ذلك, وأتاح السبيل لأجهل منهما بعدم مشاركة الأقباط في المأكل, والملبس, ناهيك عن أولئك المتخلفين الذين يطالبون الأقباط بدفع الجزية( لا الضرائب) وهم صاغرون, هذا الجنون لا نجاة منه إلا بتكاتف عقلاء الأقباط والمسلمين معا في مواجهة ثقافة التخلف والجهل والخرافة والخزعبلات والتعصب في كل اتجاه, والأمر الثاني أن الوضع الكارثي للثقافة المصرية ليس قائما في فراغ, ولا يحتاج فحسب إلي مجموعة وزارية متناغمة لإصلاح التعليم بشقية والإعلام والثقافة وثقافة الوعاظ والأئمة في المساجد, فضلا عن تثقيف الشباب والمرأة, وإنما يحتاج أيضا إلي تضافر الجميع, ودفع مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته علي العمل في تنمية ثقافة الدولة المدنية التي تحمي العقائد وتصون حرية الأديان وتضرب بحسم كل من يعتدي علي الأديان أو يمايز بين المواطنين علي أساسها, وليت الجميع يتفقون علي ضرورة إصدار قانون ضد التمييز الطائفي والاعتقادي وعدم التردد في تعديل المادة الثانية من الدستور لتؤكد أن الدستور يستوحي أو يهتدي بالقيم العليا والمبادئ الكلية لكل أديان الأمة. ويبقي الأمر الثالث وهو ما يتصل بأن الوضع الكارثي للثقافة المصرية ليس قائما في الفراغ ولا معلقا في الهواء, وإنما هو نتيجة لعوامل عديدة: سياسية واقتصادية وثقافية وأوضاع موازية مرتبطة بخلل دولاب العمل الحكومي في كل مجال, وما يعتوره من مشكلات تؤدي إلي الفساد والانحراف واستغلال النفوذ واستخدام السلطة في غير ما وضعت له, وفي تقديري أن الكارثة الثقافية هي جزء من كل, ولن ينصلح الجزء إلا إذا انصلح الكل, وإذا كان من العسير أن تعود إلي الثقافة المصرية عافيتها إلا بتضافر كل الأطراف الفاعلة, فيها( بما في ذلك المثقفون الذين عليهم نصيب من العبء, وقدر كبير من المسئولية) فإن الحالة المصرية كلها والوضع المصري العام لن ينصلح إلا بالحوار والتعاون بين الجميع, وإذا كانت الدولة المدنية في خطر حقيقي ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. إلخ, فإن الحل لن يكون حكرا علي أحد, ولن يستطيع حزب سياسي واحد, مهما تصور قوته وسطوته الجماهيرية أن ينهض بمصر من كبوتها, ولذلك أتصور أن الواجب الأول علي عقلاء هذه الأمة, في هذه الانعطافة التاريخية الخطرة, أن تعلو أصواتهم للمطالبة بحكومة إنقاذ وطني, وتكوين جبهة إنقاذ, أو ائتلاف وطني بين الأحزاب لإخراج الوطن من المأزق الذي يواجهه, وليس الوطني الحقيقي, في هذه المرحلة, من يقول: أنا قادر وحدي, بل من يقول: أنا قادر بالتعاون مع أقراني في تمكين وجود دولة مدنية حديثة, تحقق العدل الاجتماعي والحرية السياسية والفكرية والمساواة الكاملة بين المواطنين جميعا بلا تمييز علي أساس من دين أو ثروة أو طائفة, فالوطن للجميع والدين لله, والمستقبل الواعد لن يصنعه حزب بمفرده مهما كانت دعاواه أو قوته الظاهرة أو الخفية.